تحت شجرة الجوافة
---
الإهداء:
إلى ظلك الذي ما يزال يعانق روحي حتى النهاية.
إليك أنت وحدك تعلم من تكون لذلك لن أبوح باسمك أبد الدهر.
المقدمة:
بدأت قصة عشقي لكَ منذ ثماني سنوات مضت،
وستكبر داخلي لأحملها نحو العالم أجمع لتُخلَق حاملة عطر الياسمين الدمشقي ، حيث تمتزج مياه نهر النيل مع الفرات ،ونصبح أنا والكلمات موطن واحد لعشق سيخلده التاريخ.
من أكثر الأشياء التي أبدي لله الشكر عليها وجود عائلة صغيرة تحملُ دمي وتشعرُ بالفخرِ لكوني جزءاً مُهمَّاً داخل حياتهم.
معك يا حبيبي علمتُ بأن الأحلام تتحقق وبأنَّ الزواج ليست مرحلة جديدة وحسب، بل مهدٌ لبناء المستقبل.
يمكنني اليوم أن أقول خلفَ كُلِّ كاتبة مُبدعة عائلة عظيمة تملأُ قلبها بالحُبِّ والأمان.
1.
الفصل الأول: تحت شجرة الجوافة..
المعجزات السبعة:
يضعفُ القلبُ بين أضلعنا، عندما ندرك بأننا أعطينا غالبية الوقت الذي نمتلكه، للأشياء التي تُرهقنا دون وعي أو إدراك.
لكن ماذا عن وجود الحُبِّ الضائع داخل طرقات وعرة الوصول، هل سنكتفي بمشاهدة الأمل المتبقي يذهب دون عودة، أم أننا سنرحل معه نحو تلك الضفاف المجهولة المكان والزمان.
ماذا لو جاء ذاك الشخص الذي يمتلك روحاً تُداعب الطفولة داخل روحك، لتمسح عنه تعب السنين، تُعرِّي له الحقيقة الكاملة أمام مرآته، تجعله يعود إليه و يثق بذاته كما كان سابقاً، هل ستدعه يرحل بهذه السهولة، أم أنَّك ستبقيه إلى جانبك، ماذا لو اتضح أمامك عدم وجود أحقيتك بامتلاكه؟!
وصلتُ إلى مطار القاهرة الدولي بحقيبة صغيرة رثَّة، وقلب يرتجف بشوق لرؤية الياسمين الدمشقي ، أما يدي كانت تعانق جسدي الواهن الضعيف، بملامحٍ خبأتها داخل كتابي للتواري عن نظرات الشفقة والرحمة في عيون العابرين من حولي.
2.
جلستُ على أقرب مقعد داخل استراحة كبيرة للمغادرين، بعد أن خُتمِت أوراقي الثبوتية للعودة نحو أرض الوطن، لم أكن سوى مجرد سائحة أجنبية لمدة شهر كامل، كما كان الأمر بالاتفاق مع دار النشر لحضوري معرض القاهرة الدولي للكتاب لعام ٢٠٢٣.
انتظرت قدومك ربما لرؤية وجهك الجميل، أو لترسيخ ذكرى أخيرة عن قلب عشتُ داخله لمدة من الزمن، لكنك لم تأتي لذلك قررت إرسال المخطوطة إليك عبر البريد الخاص بالمطار نحو منزلك الريفي المتواضع على أمل أن تقرأه بعين قلبك لا عقلك، وبروحٍ أحبتك حتى أدمنت قرب رائحة عطرك.
لم أعد أنتظر وجود الحُب في حياتي بعد أن أصبحت كل الحياة، لكنني أتألم كلَّما رأيتُ يدي فارغتين منكَ عدى عن بعض حبات الليمون التي قطفتها في الأمس لتعطيني إياها كآخر ذكرى بيننا، ولكنك نسيت يا حبيبي بأن الليمون سيذبل لا محالة أما عشقي لك سيكبُر داخلي مع مرور الوقت حتى أصبح أنا أنت.
أمسكت هاتفها المحمول لتضيء شاشته وترى صورة أبنائها الثلاث بأعمارهم الصغيرة و المختلفة يعانقون وجهها بشيء من المرح و السعادة.
3.
عادت بها الذكريات إلى وقت مضى، حيث الورود الجميلة الألوان كانت معشوقها في هذه الحياة.
تستيقظ كل صباح لتجلس داخل حديقتها برفقة كوب من القهوة تتحدث مع الأزهار الجوري والياسمين الدمشقي عن مخططاتها لليوم، واضعة بين ثنايا أوراق أشجار الرمان، أسرارها المخبئة داخل قلبها وخفايا روحها الضائعة.
لا شيء يعكر صفو حياتها وهي تمتلك حياة سعيدة و منظمة كما أرادت دوماً؛ بأطفال يحملون ملامحها و روحها النقية وزواج قائم على المحبة و المودة، عائلة زوجها التي احتضنتها على الدوام كابنة وجزء مهم داخل حياتهم، وقد بدأت تحقيق أحلامها داخل عالم الكتابة بتأليف الروايات و الدخول إلى عالم المعارض الدولية حتى عُرِفَ اسمها للكثير من الناس وأصبح لديها العديد من القراء وهذا ما أسعدها بشكل مختلف، تشاهد عالمها الخاص يبني لها قصر مُمَرَّد بالأزهار تسيجُّهُ الأشجار المثمرة لتشعر بطفولتها تعود إليها.
لكن ماذا عن الحب الذي كتبت عنه الكثير ولا تؤمن بوجوده سوى بالأساطير والروايات، التي كتبت من أجل التسلية والمتعة لا أكثر!
4.
فهي توقن تماماً خطره على نفسها و المحيط من حولها، فالحب داخل قلوبنا لا يعطينا سوى المغامرات نحو القمم الشاهقة حيث الأمواج العاتية والتي تجرفنا نحو الدمار المحتم.
لذلك انكفئت على روحها قانعة بما أعطاها الله متجاهلة أحلامها وآمالها التي اعتبرتها مراهقات أثنى متمردة.
حتى جاءها ذاك الصباح الخريفي على هيئة صوت رجولي يشوبه بحَّة حنين للماضي والحاضر معطَّر بالفواكه الحمضية الريفية وتراب الأرض الرطبة بعد هطول أولى حبات المطر ليعلن فصل الشتاء القادم بعد انتهاء فصل الصيف و حرارته.
لم تكن تلك المكالمة الهاتفية سوى اتصال روتيني من العمل لإلقاء الضوء على بعض المشاكل أو الجدال حول نقاط معينة ومواضيع عملية لتبادل الأفكار و الخبرات.
وهذا ما جعل عقلها يرتاح ويستأنس لذلك الصوت المُنبعِث لها خلال الأيام القادمة.
وتنسى بأن أكبر معارك الحُب التي يختارها لنا القدر تأتينا على مهلٍ وسط زحام الأيام، جازمين أننا أقوياء نداوي الجرح بالجروح، نضع فوق الدم دماً،
5.
ونقف على قدمنا المكسورة بغرورٍ متناسين ضعفنا و أحقية الروح بالتشافِ لنرى أنفسنا في نهاية المطاف نبتُر تلك القدم دون رحمة.
أما عن زماننا الذي نعيش داخله حيث أصبح العالم قرية صغيرة نعتقد بقدرتنا على تنظيمنا لمشاعرنا والسيطرة الكاملة على أنفسنا وقلوبنا النابضة داخل أضلعنا، لكن ما إن تبدأ المعركة بين القلب والعقل ستُخلَقُ لنا أجنحة تأخذنا نحو عالم لا يشبه الذي كنا داخله سابقاً، فلا نعود إلى ماضينا ولا ننتمي إلى مستقبلنا الذي رسمناه وخططنا له مسبقاً.
لم تكن تعلم بأنها ستجد داخله مرآتها الضائعة، قلبها المجنون، وعقلها الذي يحتوي ذكرياتهما المشتركة على الرغم من فارق السنين بينهما، إلا أنهما كانا يتقاسمان مجرة النجوم، الصراع لتحقيق الأحلام، وقلب ينشطر إلى نصفين، كمدينة رومانية قُسِمت إلى نصفين لتصبح بين قارتين مختلفتين حدودها سماء واحدة، وفي منتصفها شجر الليمون و الرمان، غُرِسَ أسفل إحدى أشجار الجوافة مطرقة عظيمة تحكي قصص مُخفاة من الأساطير التي سيتذكرها بعد قراءته لروايتها التي كتبتها عنهما كرجاء إلى القدر لتحقيق اللقاء بينهما.
6.
في صباح اليوم السابع من كانون الأول استيقظت باكراً على صوت رنين الهاتف المحمول، وقد حاولت تجاهل صوته كثيراً قبل أن تجيب بفتور على المتصل في الجهة الأخرى.
الأمر الذي لم يكن متوقع لها هو دعوتها نحو أرض معرض القاهرة الدولية ولمدة شهر كامل، الخبر الجميل الذي جعلها تقفز من على السرير بحماس شديد وشغف.
لكن ماذا عن شعورها الآن بعد مضي وقت المعرض و عيشها الفترة التي مضت وكأنها لم تكن هي التي عاشتها بل شاهدتها من خلال عينيها، كما لو أنها كانت تجلس على كرسي في إحدى دور السينما القديمة تنظر إلى الشاشة الكبيرة الموضوعة على الحائط منغمسة في تفاصيل شاهدتها لأكثر من مرة و آلمتها كثيراً لكنها لم تستطع إيقافها.
صدح النداء الأخير في أرجاء المكان، لتنهض بحركة روتينية نحو البهو الكبير المؤدي إلى بوابة الطائرة كما أرشدتهم المضيفة الرئيسية.
لم تكن تأبه لما يدور حولها إلا أنها كانت تحاول الوصول نحو المقعد بسرعة كبيرة لتغمض عينيها وترتاح بعد طول عناء.
7.
على عكس رحلتها عند القدوم إلى أرض مصر، داعب الحزن قلبها وهي ترى نفسها عائدة نحو دمشق بيدين خاويتين منه إلا عن البعض من الذكريات و العديد من الهدايا التي كان يجلبها معه عند كل لقاء بينهما.
ذرفت بضع دمعات و خيبتها التي مزقت كل جميل حصل معها على الرغم من نجاحها الذي أبهر العيون من حولها.
تخيلت نفسها تقف على حافة جبل قاسيون و عينيها مثبتة نحو السماء الصافية، لكنها لا ترى بوضوح بسبب احتراق الدموع في مقلتيها، تنهيدة واحدة تذكرها بمعجزاتها السبعة التي دخلت حياتها منذ قرابة سنة كاملة وهي تكتشف كم كانت بعيدة عنها و عن ذاتها التي لم ترها إلا من خلال مرآته، هو الذي استطاع احتضان الطفلة داخلها على الرغم من بعد المسافات بينهما، لكن ماذا عن غيابه المفاجئ، وحاجتها إليه في الأوقات الصعبة والمظلمة، وهي تعلم بعدم أحقيتها بامتلاك قلبه.
خطوة أخرى تقربها من الهواء العليل، الذي يداعب خصلات شعرها البني، ويملأ رئتيها بالهواء الساخن على الرغم من برودته القارسة.
8.
لكن قلبها المشتعل لا يمكن لأي شيء إخماد الحريق داخله، لا قدرة لها حتى على إبعاده عن الخطر المحدق به رغم معرفتها بوعورة الطريق.
خطوة أخيرة تشعر بقدميها تلامس الفراغ والوجود، تقفز بها نحو شجرة الجوافة البعيدة، حيث ينتظرها في كل لقاء بينهما، تبدأه بقبلة على ثغره الكرزي وتنهيه بعناق بين أضلعه، لكن كيف سيكون لقائهم بعد الآن، ربما سيبدأ بقبلة من فوق غيمة بيضاء قطنية و لينتهي بهطول حبات المطر الصيفية رثاء لحبهم الأبدي كما كانت تعتقد.
عندما يتم تخييركم بين الحياة والحُب، البحر والبر، وبين السماء والأرض، سيكون قراركم الذي قمتم باتخاذه إما على قدر حُبِّكم المجنون و المحفوف بالمخاطر، أو عقلكم الصلب و الرغبة في حياة أكثر أماناً كما يفعل الجميع من حولنا.
لكن ماذا عن القفز من فوق قمة الجبل المقابل للمروج الخضراء، وهل ستشفع لها شجرة الليمون المراقبة لكل حركاتها و سكناتها، هل سيغفر لها أطفالها.
9.
رحيلها عن هذا العالم في وقت مبكر جداً، وهل بإمكانها مسح دموع أهلها المهدورة بالرغم من عدم استحقاقها لها؟!
ستجد صورتها في أعلى صفحات المجلات و على شاشات التلفاز، ستتداول الإعلام قصتها حول العالم، حينها لن يكون لكتابة الرواية فائدة إلا لمن أراد فعلاً قراءتها كحبيبها الذي فقدها وهو يحاول البحث عنها من خلف الكلمات.
لذلك قررت ميار منذ قرابة الشهر كتابة الرواية و إرسالها عبر البريد من داخل المطار قبل مغادرتها نحو الطرف الآخر من العالم، سيجلس تحت تلك الشجرة المعتادة على سماع قصصهم و مغامراتهم الجنونية، يتأمل غلاف الرواية و يشتم رائحة الأوراق، ربما سيكتب على الورقة الأولى ذكرى موعد ولادة طفلهم الأول والأخير، أو حتى تخطيط اسمه الأول والبعض من الكلمات الصعيدية الجميلة لكنها لن تتوقع أبداً كتابته رسالة إليها يعبر فيها عن حبه لها عزاءً عن رحيلها، وهل كان قلبه يعرف ما الذي يحصل معها؟!
10.
في هذا اليوم تحديداً تلقى بريداً إلكترونياً بوصول طرد صغير باسمه، وهذا ما أثار قلقه منذ الصباح الباكر ليعبر الحقل الأخضر نحو مكتبة البريد في الحي المقابل له خلال عشرة دقائق و يصل نحو شجرة الجوافة وسط فوضى عارمة، كان هو سببها دون أن يدري.
جلس و هو يحاول التقاط أنفاسه المتسارعة محاولاً فتح المُغلف و رؤية الطرد الذي كان عبارة عن رواية
( تحت شجرة الجوافة) التي أخبرته عنها ميار، لكن لماذا لم تحاول الصبر و إعطائها له بعد وصولها إلى دمشق.
اعتصر قلبه من فرط الألم والشوق وهو يحاول تذكر رسالتها الأخيرة له، هل كانت تحاول إخباره شيء ما لكنه لم يلاحظ الأمر، مرر يده لداخل جيبه و اخرج منها رسالتها الأخيرة التي قام بكتابتها على ورقة بيضاء لتبقى معه.
11.
عزيزي:
للحُبِّ مراتبٌ كثيرة أجملها قلوب الأطفال البريئة، أرقاها حُبُّ العائلة، أما عن مرتبة الجنون فهي حُبِّي الكبير لكَ و أنا أعلم جيداً أننا في كلِّ مرة نلتقي بها سأعود إلى فراشي آوي إليه بقلب أيديه خاوية منك عدى عن بقايا عطرك التي يشوبها شيئاً من فاكهة الجوافة.
اليوم وللمرة الأولى أُدرِك صلة شجر الجوافة بعشقنا يا حبيبي.
كيف لهذه الفاكهة أن ترتبط بالتقاء قلبينا وكأننا
نستمدُّ منها أعواد الخشب الرفيعة لبناء عش يجمعني بك عندما يحلُّ موعد اللقاء.
لذلك قررتُ كتابة هذه الرواية لتخليد حُبي المجنون لروحك النقيَّة، وكتعزية لي عن الوقت الذي سأمضيه بعيدة عنك والحنين يؤرق مهجتي والفؤاد.
حبيبتك ميَّار.
12.
كرر قراءة الرسالة لعدة مرات قبل أن يبعث لها رسالة تأكيداً عن وصول الرواية إليه، ومحاولاً الاطمئنان عليها بعد أن أقلقه غيابها المفاجئ له و لمدة أسبوع دون الحديث معه أو تواجدها على مواقع التواصل الاجتماعي دون أي مقدمة.
إلى حبيبتي الغالية على قلبي على الرغم من بعد المسافات بيننا.
تحت شجرة الجوافة بدأت قصة عشقنا و تمنيتُ رؤيتي لوجهك الجميل المُشابه للشمس عندما تبزغُ من ضفاف نهر النيل الشرقية فتعانق دفئها الكائنات ويمتلئ بالحب النقي.
لكنني لم أدرك يوماً بأنك ستغربين عن الوجود ولو بعد حين، فيا لقلبي الحزين الذي شهد ولادة ابنته و حُبِّه مرتين، لكنه لم يستطع الوصول إليهما أبد الدهر.
13.
أكتب رسالتي إليك وأعلم جيداً بعدم وصولها لكِ، لكن عزائي الوحيد كلماتك التي تركتها لي قبل مغادرتك و الكثير من العشق المُتيَّم الخالص داخل صفحات روايتنا التي كتبتها لنا ليُخلَّد عشقنا بالتقاء قلبينا قبل جسدينا و تعرية أرواحنا كمن يقف أمام مرآته يرى نفسه بعيوبه و محاسنه، حبيبتي قبل كل شيء تذكري أنني أحببتك بجنونك ومشاكساتك التي كانت تداعب روحي لتعيدني نحو الطفولة.
و الأمر الجيد أنني تعلمت الضحك من كل قلبي عند رؤية الأطفال و الورود كما تمنيت دوماً.
أمنيتي الأخيرة أن تبزغ شمسي مرة أخرى بلقياك يا حبيبة وابنة القلب
14.
حلم:
كانت تراقب أشعة الشمس البازغة بدلال مفرط وهي تجلس على المقعد الخشبي داخل الحديقة التابعة للعمارة التي جاءت إليها حديثاً بعد وصولها إلى القاهرة.
وضعت أمامها جهازها المحمول و حاسوبها المتواضع برفقة أقلام الحبر الملونة و كراسة صغيرة لتدوين الملاحظات، و ثلاثة أكواب من القهوة، البعض من الرقائق المخبوزة منذ الأمس.
لم يكن لديها أدنى فكرة ما الذي ستفعله طيلة هذه الأيام لوحدها، لذلك قررت النهوض و مراقبة الأطفال من حولها لتأنس بقربهم.
قبل أن تشاهد الساعة التي في يدها تشير إلى العاشرة صباحاً لتقفز مسرعة نحو المنزل للاستعداد التام لأولى أيام المعرض الذي ستدخل إليه بفخر واعتزاز بولادة روايتها الأولى والتي تحملُ اسمها كما كانت تحلم دوماً.
ارتدت ثوبها الأبيض ووضعت القليل من الزينة وهي تسدلُ شعرها فوق كتفيها، تنظر إلى مرآتها لتلقي النظرة الأخيرة، تحزمُ جميع أغراضها في حقيبتها المتوسطة الحجم، متجهة نحو أرض المعارض الدولية
15.
أغمضت عينيها لتعود بها ذاكرتها نحو منزل الطفولة التي عاشت داخله ذكريات الطفولة قبل أن يأخذه الحرب من بين أيديهم.
كانت نافذة غرفتها تطلُّ على البستان حيث شجر الليمون و الزيتون، يفصل بينهما نهرٌ صغير رقيق الماء عذب اللون ينسَكِب على بحيرة تنعكس السماء فوق سطحها كالمرآة فترى تلبُّد الغيوم القطنية، متوسطة الحجم تتوسط المكان بزهو الملوك، تحيطها الأعشاب النهرية من جوانبها، تشربُ منها جميع الحيوانات.
شعرت بالراحة و السلام يداعبان روحها ليخبو قليلاً تعب السنين التي مرَّت بسرعة كبيرة، وكأنها حبات رمل ناعمة بقبضة يد طفل صغير.
كانت بوابات المعرض تحمل أرقام الأقسام التابعة له و الدور التي تقبع داخل كل قسم على حدى، لذلك فضلت الدخول وفق الخريطة لعدم تضييع الوقت حتى المساء في إيجاد القسم الخاص بدار النشر التابعة لها.
ترى الوجوه من حولها ضاحكة مشرقة، أما عنها فكانت تمشي على استحياء وسط الزحام حتى وصلت إلى القسم المكتوب على الرسالة الإلكترونية المثبتة لديها.
16.
بحثت بين الرفوف بقلق و توجس شديد، حتى رأت غلاف روايتها لتنفس الصعداء وتجلس على أقرب كرسي، كانت تعلم جيداً أنها لن تكون وحيدة في هذا
العالم، ولديها حلمٌ أصبح حقيقة و عائلة تدفعها للصعود نحو النجوم.
17.
والتقينا
قلت لي ذات مرة: رجلٌ محظوظ في هذه الحياة من يُهديه القدر أنثى كاتبة تعشقه بجنون وتُخلِّد اسمه بين سطور التاريخ.
كنت أنظر إلى داخل عينيك البنيتين والدافئتين وأنا أرقص على أوتار صوتك العذب بحذاء زجاجي أشبه بالذي ارتدته سندريلا في حفل تتويج أميرها لكن الفرق بيننا ، كانت تعلم تلك الفتاة الساذجة أنه حُبِّها الأوحد، لكنني كنت أعلم أنك صديقي و أماني ، والحُبُّ عندي يا حبيب القلب هو الأمان قبل كل شيء .
18.
ما بين السطور
هل تذكر زيارتنا الأولى لمكتبة أبناء سوهاج، في ذلك اليوم كنت الفتاة السورية الوحيدة في ذلك المبنى الضخم الممتلئ بالطلبة والمدرسين، لذلك شعرت بالوحدة الشديدة وأنا أراك تتصفح الكتب واحد تلو الآخر بنهم و شغف شديد دون أن ترى أو تدرك ما يحدث حولك
بعد عدة دقائق قطعت حاجز الصمت بيننا بصوتي الخجول وأنا أسألك، كانت عيني مثبتتان نحو الأرض بشيء من العشوائية: ماذا تعرف عن قيس بن الملوح و حبيبته ليلى؟
رُسِمَت على شفتك ابتسامة مكرٍ و أنت تضع الكتاب الأخير من يدك و تعبث بأصابعك الطويلة بحبَّات الماء المُنسكِبة على الطاولة الخشبي أمامنا قبل أن تعضَّ على شفتيك وتغمزني بمرح وانت تقول: ما تعرفيه أنت بالضبط، لكن هل تودين إجابة ما بين السطور؟
19.
عندما أحبَّ قيس ليلى كان يلحق بها من مكان إلى آخر، وفي ذات مرة رآه أحد المُصلَّين يتبع أخبارها
فقال: لو أنهم أحبوا الله و أتصلوا به كما فعلت بحبي لليلى لما لاحظوا شيئاً الحُبُّ العظيم الذي تعيشه القلوب، لا ينتهي جميعه بنفس الطريقة البعض منه ينتهي بإتباع ظلِّ المحبوب دون جدوى تُذكَر.
20.
على ضفاف نهر النيل
كنت تمشي إليَّ بخطى ثابتة تحملُ بين يديك باقة من زهر التوليب، وتمدُّ يدك الأخرى نحوي لتجذبني من خصري، أما عيناي فكانت تغرقُ داخل عينيك البنيتين حيث الشمسَ الدافئة تشرق من خلال أيام ربيعية تحملُ معها أرواحنا الطفولية
أما أنا فقد ارتديت لك الثوب البنفسجي الذي أهديتني إياه بعيد ميلادي الثلاثين وأنت تهمسُ لي : لم أرى امرأة ثلاثينية تفوقُكِ جمالاً وغُنجاً، رفعت شعري المُجعَّد نحو الأعلى بملقط أسود اللون.
أمام نهر النيل كانت بدايات عشقنا، في هذا اليوم وقفتُ أمام ضفَّته سكبتُ نبيذ عشقنا نحو أعماقه ليختلط لون الدم المُعتَّق بصفاء لون مائه العذب.
21.
شعرتُ بأنفاسك الثائرة فوق عنقي بعناق الشوق واللهفة، فتذوب داخل أضلعي الكلمات وتهربُ من عيني دمعة تسكنُ أصابع يدك
ينقسم قلبي إلى مئات النساء، زاهدين في عشقك يرقُصنَ حولك كصوفيٌّ يحملُ آلاف الورود من العالم أجمع قُرباناً لروحه و للتشافِ بالقرب، يولدُ لي منك عشرات الأطفال برائحة الياسمين والليمون ودم الفراعنة و قلب الرومان القدامى.
22.
ونصف قمر
ينتصفُ القمرُ وسط السماء و النجوم ترقصُ على لحنِ عشق قلبينا، لا شمس ستشرقُ قبل اتحادنا يا حبيبي.
خطوط يديك تنحتُ على جسدي تذلُّلَ الرُّمان في صدري تعتصر راحة كفِّك حباته لتخضع لك بسلام الزاهدين، ويعتصر القلب شوقاً لقُربِ أنفاسك منه.
درويشيه أنا زاهدة بين يديك والياسمين كان قرباني الوحيد أمام حُبِّك العظيم.
أرفع يدي نحو عينيك البنيتين حيث حقول القمح الذهبي و ضحكات الأطفال البريئة تتشابه مع صوت نبضات قلبينا الصغيرين.
تنزلق يديك نحو جسدي أكثر و تشدَّني إليك فأسكن بِكَ دون عودة، في عالمك الأكثر رحباً و حياة أجمل و أقوى.
ابنة قلبك يا حبيبي الجميل، تلك الفتاة التي كتبها قلم القدر لتصبح أنت في مكان آخر.
23.
ستجد داخلي روحك المجنونة، قلبك الرقيق وعقلك الكبير، ملامحك المُخبأة عن العالم الخارجي وجميع أحلامك.
حبَّات التوت البري القابعة على ثغرك كانت ثمار شجرتي المُحرَّمة التي أُنبِتَت بين أضلعي.
كصوت غابات الحور كان شوقي يهتدي إليك، لأنَّك ربيع قلبي والحياة لهُ.
أصبحنا أكبر من لعبة العُشَّاق يا جميل القلب، لكننا نعلم مدى حاجة كل واحد لروح صاحبه ليسمو في هذه الحياة.
24.
مرايا
أقفُ أمام المكتبة التي قامت بجمعنا للمرة الأولى داخل جدرانها المُزدحمة بالكتبِ المصفوفة بعناية تامَّة داخل أقسامها المُختلفة، حيث كُنتَ تجلس على إحدى المقاعد الخشبية تحملُ بين يديكَ كتاب البداية و النهاية، تُثبِّت عينيك نحو صفحاته و تتنقَّل بينها بعناية تامَّة.
تأمَّلتُكَ كثيراً قبل تفكيري بطلب المُساعدة منكَ في اختيار الكتاب الأنسب، ليس لعدم وجود الخيارات المتاحة أمامي!
ودَدْتُ التعرفُ إليك عن كثب، لكنني لم أعلم يوماً أنَّك ستكون بدايتي ونهايتي لهذه الحياة، لقد غيَّرتني عند نظري للمرآة لا أرى نفسي التي كنتُ عليها سابقاً، حتى مع عدم تغير لون عينيَّ أو حتى تقاسيم وجهي، شيء ما خرجَ منك واستقرَّ داخل قلبي.
25.
أمسية روحية
يدعونا الحُبُّ إلى أمسية روحية حيث يجلس معنا على ضفاف نهر النيل.
يُسامِرنا فوق بِساط رقيق نسجتُه بشغاف القلب يا حبيبي، حاملٌ بيديه سلَّة قشيَّة يضع بها الكثير من القُبلات و عناقٌ كبير لأحضانك الدافئة.
في هذه الليلة سأرتدي لك فستاني المنسوج بأزهار الليلك البنفسجي و الحرير التوتية و شعري المضفور ينسدلُ فوق كتفيَّ يتشابكُ معه الياسمينٍ الدمشقي والريحان .
تراني من بعيد قادمة نحوك بخطوات رقيقة، تمُدَّ يديك نحوي لتُعانق يدي، تقترب مني وتضع قُبلة رقيقة فوق عنقي فأميلُ نحوكَ كمن يعود إلى نفسه الضائعة منه.
ترسمُ على شفتيك ابتسامة صغيرة تطبعها على ثغري، ويديك حول خصري تقربني من حصون مملكتك، تدخلني إلى ساحات قصرك وتجعلني أرقصُ معك على مقطوعة موسيقية عزفها النيلُ لأجلنا فقط، تدورُ بي الدُّنيا وتسندني بقلبك أنت.
26.
يسكُبُ لنا القمرُ نبيذ الشوقِ بكأسٍ ضخم يميل عنقه نحو السماء مُرسِلاً أمنيات الرُّوح.
يقرِّبه إليكَ تشربَ منهُ أوَّل رشفة من كأسه الملأ، وأثملُ أنا بعطرك المعتَّقِ بماء العشق.
هنا في قلبي حيث لاوجود إلا لكَ أنت..
وفي هذا المكان يهفو الفؤادُ للقربِ منك و يبتلج الحُبَّ ملاذاً لهُ.
27.
الفصل الثاني: قلم حمرة
28.
حروف مُبعثرة
تسألني ما هي أكثر المراتب عظمة داخل الحُبِّ فأقول لك أن تكون المأمن وبأن تحظى بالسند على الدوام مهما بلغت أخطاؤك أو حمُقَت تصرفاتك، وبأن لا تخاف من الفراق أو حتى البُعد بعد القرب لسنين طويلة
الكثير منا يعيش قصة حُبٍّ كبيرة تنتهي بفراق على أسباب لا تعدوا أن تكون بسيطة، يا حبيبي لو كُنت تريد الفراق فلا أحد يمنعك، لكن تذكَّر على الدوام، المحبة الحقيقية تمحو الخطأ مهما كان، لكن الخطأ لا يمحو المَحبَّة من داخل القلب
لا أحد منا يستحقُّ أن يُترَك دون أسباب أو حتى لحظات وداع، ولو ببضع كلمات مُبعثرة
لا أحد منا يستحقُّ أن يرى نفسه غير كافي أو حتى ناقصاً للطرف الآخر، حتى في قوانين الفراق الأمان لا يلغى مهما بلغت الكراهية.
29.
الأيام
من اليسير إشعال نيران العِشق داخل القلب، لكن من الصعب المُحافظة على الدفء والشغف لمدة طويلة.
ستحتاج إلى الكثير من الصبر المغموس بعلقمِ الحياة، والثقة الكاملة بمن أعطيته مفاتيح القلب.
تمرُّ أولى الليالي وتُنيرَ الأمل المتبقي داخل أضلعك، لكن عند أول إشراقة شمس في الحياة لا تتوقف المتاعب عن الركض وراء الطرفين العاشقين، القوي فقط من يحاول التمسُّك بيد محبوبه حتى زوال العاصفة.
ستخبو نيران الحُب بينهما من حين إلى آخر، فيشعر كلاهما بظُلمة الشوق وألم الفراق، الثقة المتبادلة وحدها الكفيلة بتحقيق الثبات حتى نهاية الليل.
وحدها الحروف والكلمات التي يكتباها من ستُقرأ لتُخلِّد عشقهما الممزوج بالصبر الجميل.
وحدها الأيام كفيلة لإثبات وفاء الحُبّ ورسوخه بين قلبيهما.
30.
جبروت
تراها تقفُ ساكنة بهدوئها المُخيف تنظرُ إليك بعينين يشوبهما الأمل الكاذب، الخوف المُتواري خلفَ القضبان الغليظة الباردة والرطبة داخل روحها، المُمتلِئة بالدَّمِ ورائحةِ العفن.
تلك الجدران التي تجلسُ خلفها فتاة نحيلة الجسد غريبة الأطوار، تقضمُ أظافر يديها المُرتجفتين تضعهما بين شفتيها الزرقاء المُجعَّدة وهي تنظر نحو الزوايا الحادة للجدران إلى ما وراء الوجود.
بشعرها الأسود الكثيف تُخبِّئ ملامح وجهها ببشرتها المائلة للزرقة وعينيها غائرتين نحو الظلام والمجهول.
دموعٌ تنسكب داخلها، تصبُّ نحو قلبها لتطفو الكراهية والحقد الكبير إلى العالم الخارجي، وتطغي على حُبِّها الكبير، فيتبدَّل عشقها العظيم إلى جبروت وقسوة الطُغاة.
31.
أحبك
تُغرقني داخلك في كُلِّ خطوة أقترب بها نحوك،
يميلُ رأسي على صدرك، وتدور حولي أحلامنا،
لتُحلِّق فوق قلوبنا بأجنحة ذهبية.
يديك حول خصري تقربني منك،
وبخطوات سريعة ترفعني نحو السماء،
حيث النجوم المُتراقصة حول القمر.
تلتقي أنفاسنا للحظات قصيرة،
فتذوب على شفتي الكلمات فأحبك أكثر من ذي قبل!
32.
الوطن الدافئ
انعكاس ملامحي داخل مرآتك، وسماعك صوت ضحكاتي في أذنك ليضحك قلبك الكبير ببراءة الأطفال العاشقة.
تجدُ نفسك تفعل كل الأشياء التي فعلتها ووصفتني حينها بالجنون و التهوُّر، تبحث عنِّي ما بين السطور لتعانقني لكنِّك لن تجدني بهذه السهولة!
أنا الماء المُنسكِب بين شفتيك ليروي عطشك، قلبُكَ النابض داخل أضلعك، بل نسمةٌ عليلة تمرُّ مرَّ السحاب فوق وجنتيك، تقطفُ توتاً بريَّاً ليثمر ويعطيها الوطن الدافئ.
33.
عطرك الشهي
عزيزي أتعلم أنني بنيت من حُبنا صرحاً مُمَرَّداً بالكثير من العناق و القبلات التي لطالما وضعتها بكل شغف وجنون فوق لحيتك الكثيفة.
كانت عينيك وطني الآمن، ومقطوعتي الوترية
التي لا أملُّ من سماعها مهما كبرنا بالعمر!
خبأت آنذاك عطرك الشهيُّ داخل قارورة زجاجية قديمة، وسكبت فوقه البعض من النبيذ الأبيض يتخلله أوراق من الورد البنفسجي.
واضعة إلى جانبه كمانك الذي مزَّقت أوتاره ذات ليلة بسبب غضبي، من رحيلك المفاجئ!