بعد ساعة كاملة كنت أجلس فيها أمامها، أحذرها من المضاعفات الخطيرة التي يمكن أن تحدث له إن لم تلتزم بتعليمات الطبيب، أشارت إليه:
- مش بيرضى ياكل .. مش قادرة عليه ..
كان والدي يشير بيده ناحيتها يحاول أن يخبرني بشيء والدموع تلمع في عينيه، ثم رفع رأسه ونظر ناحية الدولاب .. فقالت: عاوز السجاير .. خبيتها منه .. الدكتور مانعها.
قمت وربت على كتفه وقبلت رأسه فسالت دموعه، كان قلبي يتمزق وأنا أتذكره وهو بكامل عافيته عندما كنا صغارًا، حين كان يدخل البيت فنختبئ خوفا منه ولا يطلع لنا حِس، وصوته الذي كان يهز البيت حين يغضب، وجلوسه وضحكاته معنا في سهراتنا أمام التلفاز.
كانت حالته الصحية قد ساءت بعد إصابته بجلطات دماغية متكررة، أدت لضعف في حركة نصف جسده الأيمن وثقل في اللسان.
كنت أحاول التخفيف عنه، ومحايلته حتى يأكل طعامه ويتناول دواءه، فقلت لها أمامه:
- خلاص يا ماما .. سيجارتين كل كام يوم مش هيحصل حاجة، ثم التفتُّ ناحيته وأنا أبتسم .. ورفعت إصبعين: اتنين بس .. اتفقنا؟
ما إن نطقت بتلك الكلمات حتى أضاء وجهه ولمعت عيناه وهو ينظر لي ثم ينظر لها .. وكأنه يخبرها أنني أنصفته ونصرته عليها .
كلما ذهبت لزيارته، كنت أرى الرضا في عينيه والبسمة على شفتيه، فقد كنت أُسَرِّي عنه بحكاياتي معه، إلا أنني - في زيارتي الأخيرة - لاحظت أن حالته النفسية قد ساءت بعد مكوثه الطويل بالمنزل وملازمته للفراش، فأشرت عليها أن نطلب من أخي أن يصطحبه للجلوس في المقهى مرة أو مرتين في الأسبوع ليرى أصدقاءه ويدخن السيجارتين خارج المنزل .. فوافقت وكانت سعادته كبيرة لذلك.
غير أنه لم يمر أسبوعان على حديثي لها حتى جاءني اتصال منها، كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة مساءً، ما إن فتحت الهاتف لأرد إلا وقد انطلق لسانها بالكلام: (أبوكي تعبان حصلينا بسرعة على المستشفى) .
في صالة الطوارئ، بعد الفحص وعمل أشعة مقطعية على الرأس والصدر، كانت النتيجة إصابته بجلطة دماغية جديدة، وكذلك التهاب شديد بالرئتين، أكد الطبيب المعالج على أن ما حدث هو نتيجة للإفراط في التدخين، .. كان كلام الطبيب عن التدخين الزائد صادمًا لي فالتفت إليها لأستفسر .. فكان ردها: (أنه كان ينزل للقهوة معه سيجارتين ويعود والعلبة تكاد تكون ممتلئة)!.
بعد أن أمضى يومين محجوزًا تحت الملاحظة بالمستشفى عاد للمنزل، كنت أذهب إليه كل يومٍ مرتين صباحاً ومساءً لإعطائه الحقن التي كتبها الطبيب لعلاجه وأمر بتكرارها عدة مرات .. لم أصدق ما حدث وصدمتي وألمي كانا كبيرين؛ عندما رأيت نظراته تتحول من فرح لاستقبالي إلى فزع من دخولي غرفته، اختنقت بدموعي وأنا أرى عيونه المصوبة بخوف وألم للحقنة التي كنت أمسكها بيدي؛ استعدادًا لغرسها بجسده الواهن .