طرقات على الباب أعادتها لوعيها .
كانت صفاء تجلس في غرفتها ممددة على سريرها تضع يدها على بطنها تتحسسها بحزن، مُرْهِفَة سمعها لتلك الجلبة التي تأتي من الشباك، وصوت المولود الذي يخترق سمعها، تململت في فراشها، هي لا تريد رؤية أحد، تريد الاختفاء عن العالم، فقد آثرت الوحدة بعد كل ما عانته، لم تعد تحتمل نظرات التساؤل ومصمصة الشفاه على حالها.
كانت اليد التي تطرق خشب الباب لا تمل ولا تتعب .. فاندفعت من فراشها وتوجهت نحو الباب، وقبل أن تصل يدها إليه، سمعت حماتها تناديها وتواصل الطرق، ما إن فتحت الباب حتى اندفعت كلمات حماتها وقد جاءت متتابعة تستفسر عن سبب تأخرها، وتؤنبها على عدم الحضور للتهنئة بالمولود واستقبال الضيوف، فكيف تتأخر عن سبوع أخت زوجها!، تقلصت الابتسامة التي كانت تحاول استقبال حماتها بها، اعتذرت عن التأخير، وأخبرتها أنها قادمة .
بعدما أغلقت الباب ونزلت سُلَمَتَيْن، تذكرتْ علبة الهدية التي كان أحضرها زوجها لتقديمها للمولود، عادت وأحضرتها، نظرت لنفسها في المرآة بحزن ثم أغلقت الباب وتابعت النزول خلف حماتها.
أثناء نزولها كانت حماتها مازالت تكلمها:
-بقالك سنتين، مآنش الآوان تفرحينا؟!
تنهدت صفاء بضيق وهي تحبس دموعها، فهي لم تنسَ لها معايرتها، وتذكيرها بنقصها في كل مناسبة ..
= كله بأمر الله .. بنحاول والأمل في ربنا كبير ..
مصمصت حماتها شفتيها، وهي تدخل من الباب
- طيب ادخلي واعمليلك حِس
ثم رفعت صوتها بالتكبير والتهليل: الله أكبر في عين الحسود، ربنا يبارك ويكتر البنين والبنات..
ثم أشارت لبناتها
- قومي انتي وهي ولعي الفحم للبخور، وجهزي اختك والمولود للسبوع ..
دخلت صفاء خلف حماتها، سلمت على الحاضرين، ثم وقفت مترددة أمام باب الغرفة، أتدخل لتقديم هدية المولود أم تتجاهل رغبتها؟! .. فجأة جذبتها حماتها من ذراعها وأبعدتها عن باب الغرفة ..
- معلش بلاش تدخلي عليها، استني لما تخرج هي .. أصل تتكبس ولاَّ لبنها يُقْطَع..
وقع كلامها على صفاء كضربات سكين، فدست العلبة الصغيرة في جيب عباءتها، وانتابتها آلام مبرحة ببطنها جعلتها تنسحب إلى المطبخ وهي تهز رأسها وتكتم دموعها.
وقفت في المطبخ تمسح دموعها وتمسك ببطنها التي تتقطع من الألم .. كانت تقاوم ألم بطنها وألم نظرات زوجها كل ليلة .. وألم تذكرها يوم أخبرتها حماتها برغبتها بتزويجه من أخرى، لأنها تريد رؤية أحفادها منه، كانت تقف بلا حيلة سوى البكاء .. قالت لنفسها: حتى أمي لا تكف عن معاتبتي على رفضي لابن عمي حتى بعد أن سافر وتزوج ورزق بطفلين .
قطع ذكرياتها صوت رنين الهون النحاسي .. بتتابع طرقات يده ما بين قعره وحوافه، فتقدمت خطوتين لباب المطبخ، كانت الصالة تتموج بدخان البخور .. ورأت أخت زوجها الكبرى تحمل إبريق السبوع المزين بالزهور والعملات الورقية، وحماتها قد أحضرت (منقد) الفحم يتصاعد منه الدخان بتلك الرائحة التي تعلق بجدران البيت، وإحدي الحفيدات تحمل الصينية وبها السبع حبوب مخلوطة بالبخور والملح الخشن وقد زرعت بها سبع شمعات.
كان الجميع قد داروا بمحاذاة جدران الصالة ـ التي أُفرغت مما بها منذ الأمس ـ سبع دورات، ثم جلسن حول الصينية التي وضعت وسط الصالة وبجوارها المنقد الذي تتعالى منه أعمدة دخان البخور، ومع دقات الهون النحاسي بدأت طقوس الرقية، كانت حماتها تضع المولود مرتديا ملابس السبوع البيضاء المطرز عليها اسمه، في الغربال المزين بالتُل وشرائط الساتان والزهور، وتمرره من فوق البخور وهي تهزه وتقول:
- رقيتك واسترقيتك .. من شر العين ..
قلَّعْتَك حرز .. ولبستك حرز .. حرز الحسن والحسين ..
ثم أكملت مع الزغاريد ودقات الهون التي تجلل في فضاء الصالة :
- اسمع كلام أمك متسمعش كلام ابوك، اسمع كلام ستك أم أمك، متسمعش كلام ستك أم ابوك ..
ثم جاء دور أم المولود لتخطو فوق البخور والنساء ترقينها:
- الأَوِّلة بسم الله، والتانية بسم الله، والتالتة .....، والسابعة رقوة محمد ابن عبدالله
كانت صفاء تقف على باب المطبخ وترسم على وجهها ابتسامة هادئة، تواجه بها كل من ينظر إليها، اقتربت منها حماتها وهي تحمل المولود وتضعه بين ذراعيها
- عقبالك .. واشيل حفيدي يارب ..
احتضنت صفاء الطفل الصغير وجسدها يرتعش .. ضمته لصدرها وشعرت بدفئه وأنفاسه الهادئة، كانت نظراتها مثبتة على وجهه .. سرحت للحظة وتخيلت أنه ابنها وهذا حفل سبوعها هي .. حتى أفاقت على يد حماتها تأخذه من حضنها لتحمله فتاة أخرى وهي تقول:
- من إيد لإيد يكبر ويزيد ..
شعرت صفاء في تلك اللحظة أنها انتزعته من أحشائها وعاودتها الآلام مرة أخرى، فلم تحتملها هذه المرة ووقعت مغشيا عليها.
عندما أفاقت وجدت نفسها على سرير بمستشفى، ومحلول معلق بذراعها، وما زالت آلام بطنها لا تحتمل، نظرت حولها، فوجدت أمها وزوجها ينظران لها بلهفة وخوف.
مسحت أمها على رأسها وطمأنتها
= هتبقى بخير إن شاء الله
وابتسم لها زوجها
* الحمد لله على سلامتك ..
بعد دقائق دخل الطبيب ليطمئن عليها
• إيه حال المريضة بتاعتنا؟!
تلهفت صفاء لسؤال الطبيب
- أنا فيا إيه؟! إيه اللي حصل؟!
• والله انتي جاية وعندك نزيف داخلي بالبطن ..
تساءلت باستغراب:
- نزيف...؟!
أكمل الطبيب:
• في الأول شكينا إنه حمل خارج الرحم .. لكن بعد الفحص اتضح إنه كيس دم انفجر .. واضطرينا نعمل جراحة.
كانت أثناء حديث الطبيب تتبادل نظراتها مع زوجها وأمها، في محاولة منها لفهم ما يقوله، ثم أشار الطبيب أن هذه الأكياس شائعة في مثل حالتها ويسببها مرض بطانة الرحم المهاجرة.
بعد أيام خرجت من المستشفى، بعد إخبار الطبيب لها بضرورة المتابعة للتأكد من عدم عودة الأكياس الدموية، مرت ثلاثة أشهر بعد الجراحة وعاودتها الآلام مرة أخرى، أنبت نفسها أنها لم تلتزم بالمتابعة مع الطبيب، وأيقنت أن الأكياس عادت للظهور مرة أخرى.
كان الألم لا يغادرها، وأخبرها زوجها بأنه حدد لها موعدًا مع الطبيب، في اليوم المحدد وفي طريق نزولهم طرقت باب حماتها، وعندما فُتح الباب أخبرتها وهي تغالب دموعها
- أنا موافقة .. زوجيه ..
ثم أكملت نزول السلم، تَبَادَلَ زوجها وحماتها نظرة استغراب في صمت، نزل زوجها خلفها وأثناء الطريق كانت صامتة حتى أنها لم تنظر إليه، في العيادة ومع عمل السونار للاطمئنان ابتسم الطبيب
- عاوزين ولد ولا بنت؟