كانت فرحة نجاة بزواج ابنها البكر لا يسعها قلبها، فقد اختار فتاة تراها ذات خلق وجميلة كما تمنتها، لتعوض بوجودها البنت التي لم تستطع إنجابها بعد أن أنجبت الولدين، كانت تقول عنها (بنت زي الذهب)، لم تتأخر هي ووالده ابراهيم في مساعدته على الزواج فسعادته من سعادتهما.
"نجاة" التي كانت مريضة بمرض مزمن يؤثر على حركتها، وجدت في زوجة ابنها ابنة لها تساعدها في أعمال المنزل عند حضورها لزيارة العائلة، إلا أن إبراهيم لم يكن يطمئن لها حيث لاحظ أنها دائما لا يهمها إلا ذاتها وتطالب ابنه بأشياء فوق طاقته وتتطلع لما يفوق قدراته.
عندما تَخَرَّجَ الابن الآخر في الجامعة، كان طموحه أن يؤسس مشروعًا ليبدأ به مشوار حياته، أشارت نجاة على زوجها أن يساعده كما فعل مع ابنهما الأكبر، لم يجد الأب ما يفعله سوى أن يبيع الشقة الكبيرة ويشتري أخرى أصغر ليستطيع من فارق السعر أن يساعد ابنه ليبدأ مشروعه، الأمر الذي أثار حفيظة زوجة ابنه الأكبر وأظهر عليها الضيق، ولم ينتبه لها سوى ابراهيم الذي كان يبدو للجميع هادئا .. ولكنه واعٍ لكل ما يحدث.
كان إبراهيم قد قضى جزءً من حياته في السفر والعمل في الخارج، اصطحب في بعضه زوجته وولديه معه، وفي البعض الآخر كان يبعث الأموال لها لتؤثث البيت وتدبر مصاريف الأولاد من دراسة وكساء ودواء ومعيشة، وبعد عودته واستقراره كان كل ما يملكه هي تلك الشقة الكبيرة التي اضطر لبيعها، وبعض القطع الذهبية التي كان قد أحضرها معه هدية لزوجته.
استعانت نجاة بزوجة ابنها الأكبر لمساعدتها في ترتيب الملابس وأطقم الصيني، تمهيدًا للانتقال إلى الشقة الجديدة، أما تلك العلبة التي احتفظت بداخلها بالذهب .. فقد دستها بين طيات الملابس، فأشارت عليها زوجة ابنها أن تحتفظ هي بالعلبة بشقتها صونًا لها من الضياع أثناء النقل، فارتضت نجاة واطمأنت لهذا الحل.
بعد أشهر قليلة من الانتقال وترتيب البيت الجديد، تعرضت نجاة لأزمة صحية شديدة، استمرت لفترة من الوقت فارقت بعدها الحياة تاركة وراءها كل شيء، وكانت قد أعلمت زوجها بما فعلت بالذهب وأوصته بقسمته بين الولدين.
بمجرد الوفاة انقطعت زوجة الابن الأكبر عن الزيارة، حتى أنها لم تكن تستجيب لتلميحات زوجها باحتياج والده إلى بعض المساعدة، واكتفت بأن تبعث بالحفيدين لزيارة جدهما، الذي حَدَّثَ نفسه بأن إحساسه تجاهها منذ البداية كان صادقا .
لم يشغل ابراهيم جحود زوجة ابنه، ولكن ما كان يشغله هو الأمانة التي ائتمنتها عليها نجاة، وكان يداخله شعور لا يطاوع نفسه في تصديقه، فلقد مضت عدة أشهر منذ وفاة صاحبة الأمانة دون أن يصله أي خبر عنها من ابنه أو زوجته، ولما كان إبراهيم قد قرر أن يصدق هواجسه فلم يخبر ابنه، ولكنه تحين الوقت واتصل على زوجة ابنه طالبًا منها الحضور ومعها الأمانة.
غابت لفترة طويلة ولم تحضر أو تعيد أمانتها كما طلب منها، فعاود محادثتها ولكنها تحججت بانشغالها، فأخبرها أنها إن لم تفعل سيُعلم ولده بما حدث منها، فأسرعت بالحضور .. وعندما استقبلها وجلست أمامه، أخرجت من حقيبتها العلبة وأعطتها له، ثم سألته عما بداخلها فاندهش متسائلا: ألا تعلمين ما بداخل هذه العلبة؟! فأجابته بثقة أنها تسلمتها من المرحومة مغلقة وها هي تعيدها اليوم مغلقة، لكن ابراهيم لم يرد واكتفى بأن أخذها من يدها.
كان ابراهيم يعرف القطع الذهبية قطعة قطعة، ويتذكر مناسبة شراء كل واحدة منها أيام سفره، ولكنه تفاجأ عندما فتح العلبة بأن القطع ليست هي التي كان يعرفها، كانت زوجة ابنه تخفي ارتجاف يديها وهي تتحاشى النظر في عينيه عندما كانت تعيد عليه قولها .. أنها احتفظت بها مغلقة واحضرتها كما أخذتها .. ثم تركته وسارعت بالانصراف.
قضى ابراهيم ليلته يقلب في القطع الذهبية وهو يساوره الشك، أتكون نجاة قد بدلت القطع بأخرى؟ .. ألم يعجبها ذوقي في الاختيار ولم تُرِدْ أن تحزنني؟
.. ربما بدلتهم زوجة ابني! .. ولكن لماذا؟
.. وإن حدث كيف يثبت ذلك؟!
عاد بذاكرته ليوم رجوعه من السفر واستقبال نجاة له وسعادتها الكبيرة بهديته لها، وقولها: أنها اعتبرتها شبكتها التي لم تحصل عليها عند زواجهما، وكانت ترتديه فقط في المناسبات ثم تعود لتضعه بعلبته وهي تنظر لكل قطعة بسعادة وكأنها كنزها الثمين، تذكر أنه عندما كان يسألها: لماذا لا ترتديه دائما؟، كانت تقول له: أنها تخاف أن يضيع منها أو يفقد بريقه .. وأنها تفضل أن تحتفظ به من أجل أولادها ..
ظل يحدث نفسه .. أن نجاة لا يمكن أن تفعل ذلك أبداً ..
الأسئلة التي ظلت تردد على باله أرَّقَت منامه طوال الليل.
عندما أطل الصباح، كان قد عزم على الخروج للصاغة ليقطع الشك باليقين، انتظر حتى انتصف النهار وخرج ومعه علبة الذهب يضعها تحت إبطه، يضغط عليها بذراعه ويقبض كفه عليها، فهي كل ما تبقى من ذكرى لنجاة وأيضا من أموال ليهبها لولديه، في الصاغة سأل أولاً عن ثمن الذهب لهذا اليوم، واطمأن أنه سيجني مبلغًا كبيرًا.
غير أنه بعد ساعة كاملة قضاها في التنقل من صائغ لآخر عاد لمنزله وهو يحمل العلبة التي ما إن دخل البيت حتى قذفها أمامه لتتبعثر محتوياتها، ثم ذهب ووقف أمام صورة زوجته يتزاحم الحزن في روحه وهو يتذكر فرحتها بزوجة ابنها واحتوائها لها كابنتها التي لم تنجبها، وجملة واحدة تتردد في أذنيه .. الذهب صيني .