من المُلفت للنظر أن الحضارة الغربية الآن على الرغم من مستواها المادي المتحضر، إلا أنها لا تعرفُ «الموسوعية» - وإن كان - فلا ترقى إلى المستوى العالي الذي كانت تتمتع وتنفرد به الحضارة الإسلامية في عصورها السابقة.
والموسوعية معناها التوسُّع المعرفي والاستبحار الثقافي والتنوع لدى أفرادها.
فنجد - الآن - مَنْ يتخصص في مجال معين نادرًا ما يكون متعمقًا في المجالات الأخرى الخارجة عن إطار حَقله التخصصي.
فقلَّما تجد طبيبًا بارعا في الفلك والفيزياء بجوار طِبِّه، أو كيميائيًا مُتقنًا للأدب والسياسة والتشريح بجوار تخصصه، أو فيلسوفا متعمقًا في الرياضيات والزراعة بجوار فلسفته، وهكذا، قلَّما تجد ذلك.
ويعتقد البعض أنْ الموسوعية والجمع بين أكثر من علم معادلة صعبة لا يمكن تحقيقها !!
لكن في الحقيقة عندما نستقرأ تاريخ الحضارة الإسلامية نجد أن صفة «الموسوعية» كانت متواجدة بكثرة بين أفراد العلماء المسلمين، حتى يبدو للقارئ أنها كانت صفة عادية يتحلى بها كل علماء المسلمين.
فما الذي حدث إذن لطالما يمكن تحقيق هذا الجمع الموسوعي ؟!
الذي حدث أنَّ أكذوبة «التخصصية» طَـغت على «الموسوعية» طغيانًا، أضرَّ بالبشرية أكثر مما يَدَّعيه أنصارها أنها أفادت وأثمرت نفعًا.
س/ ماذا تقصد بأكذوبة التخصصية؟
ج/ لمَّا حقق الغرب أهدافه في سقوط حضارة المسلمين في الشام والأندلس، أراد أن يصنع حضارة تناطح حضارة المسلمين بل وتتفوق عليها، لكنهم لم يستطيعوا، بالرغم من المستويات العالية التي وصلوا إليها من الاختراعات والاكتشافات والتكنولوجيا الحديثة، إلا أنْ يظل هناك سمات وخصائص تنفرد بها الحضارة العربية الإسلامية لم تستطع الحضارة الأوروبية والغربية الوصول إليها.
من هذه الخصائص «الموسوعية» التي نتكلم عنها. وطبيعة الغرب التي اكتشفناها من دراساتنا لشخصيتهم النفسية والسلوكية؛ أنها طبيعة حاقدة متلازمة الشعور بالنقص، إذا رأتْ أحدًا من غيرها تميَّز بشيء لم تستطع أن تحاكيه ادَّعت أن هذا الشيء غير صالح للبشرية؛ حتى تُزيل الحَرَج عن نفسها وتدفع النقص والتقصير عن ذاتها.
لذلك لمَّا حاول المسلمون في الفترة الأخيرة محاكاة أسلافهم في الحضارة الإسلامية في كثرة التنوع المعرفي واختلاف المشارب العلمية والحقول الدراسية والظهور في أكثر من مجال على نفس القدم، نابهم القلق المؤرق من هذه الظاهرة، التي خافوا أن تُنبت وتنموا فتستعيد الماضي المجيد في الهيمنة على الحاضر الراهن.
من هنا أطلقوا تلك الحَملة الشعواء لتترصد لكل مَنْ يحاول أن يصنع من نفسه موسوعة علمية، تحت شعارات مزيفة لا يُراد بها إلاَّ إحباط الأمة الإسلامية المعاصرة عن أي نهضة روحية أو علمية كما كانت تتمتع بها في عصورها الأولى
وهل الموسوعية تتناقض مع التخصصية؟ وهل يمكن أن نجمع بينهما؟ هذا ما نعرفه في المقال التالي إن شاء الله (يتبع)