إذا كان الموت هو الحقيقة الوحيدة التي لا خلاف عليها عند جميع العالمين، فإن علاقة الناس ورؤيتهم له تختلف من شخص لآخر، فالبعض دائما ما يوهم نفسه بأن الموت بعيد عنه وأنه لن يموت الآن رغم يقينه الجازم بأن الموت يأتي بغتة بلا مَعاد لكنه كما قلنا الوهم المدمر!!، والبعض الآخر يستحضر الآخرة في كل لحظة وينتظر الموت مع كل نَفَس، ﴿فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن یَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُوا۟ تَبۡدِیلࣰا﴾ [الأحزاب 23]
وفي الحقيقة الموت ليس ببعيد كما يصوره الوهم الشيطاني للإنسان، فهو أقرب إلينا من حبل الوريد، وإنَّ مَن يتأمل في التشريح الفسيولوجي لجسده؛ فسيرى أنه يموت ويحيا في كل لحظة، استعدادًا للموتة الكبرى !!.
نعم، الإنسان كائن ميت يسير على الأرض، ولطالما قرأنا قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ مَیِّتࣱ وَإِنَّهُم مَّیِّتُونَ﴾ [الزمر 30]، وفسَّرها العلماء على اعتبار ما سيكون عليه؛ حيث نزلت على النبي حالة حياته وخاطبته بقوله (ميت) وليس (ستموت).
وهذا التفسير وإن كان مقبولا بلا شك، فإن العلم والطب الحديث أثبت فعلا أنَّ الإنسان كائن ميت يمشي على الأرض، تموت خلاياه وتتجدد في كل لحظة!!
أجل، نرى الموت في كل لحظة، فنراه حينما نقصُّ أظافرنا لتخرج أظفارًا جديدة بدل التي ماتت!!
نرى الموت حينما تموت خلايا جلودنا لتتجدد بخلايا أخرى (تغيير البشرة والجلد)!!
نرى الموت حينما نُصاب ونُجرح ثم سرعان ما تلتئم هذه الجروح؛ فإن الجروح هي موت خلايا والالتئام تولد خلايا جديدة!!
نرى الموت حينما تتمزق أنسجة العضلات لتبني أنسجة جديدة بقوة عضلية أكبر (الفشل العضلي)!!.
نرى الموت في أفكارنا حينما تموت أفكار وتتولد أفكار أخرى!!
نرى الموت حينما تموت عادات قديمة لنبدأ في ممارسة عادات جديدة!!
نرى الموت والحياة في عملية الهدم والبناء في المعدة!!.
نرى الموت في كل خلية تموت في أجسادنا من أعلى لأسفل صباح مساء؛ لتتولد وتنشأ خلايا جديدة!!.
نرى الموت حينما يموت جزء في الكبد ليتجدد جزء آخر منه حتى يكتمل!!
نرى الموت مع كل شعرة تتساقط من رأسنا لتنبت مكانها شعرة أخرى!!
نرى الموت والحياة حينما تتكسر العظام لتلتئم مرة أخرى، فالكسر هو موت خلايا والالتئام توليد خلايا!!.
نرى الموت في كل لعاب يخرج من الفم، مقترنًا بخلايا ميتة لتقوم الغدد اللعابية بإفراز لعاب آخر!!
نرى الموت في السائل المنوي ذاته؛ إذ يخرج فيه حيوانات منوية ميتة وأخرى حية!!
نرى الموت في جميع خلايا الجسم التي سرعان ما تموت وتتجدد تلقائيًا!!.
وما أرى هذه إلا صيحات إلهية للإنسان الغافل الذي يرى الموت بعيدًا عنه، صيحاتٌ تَدوي في أسماع العالمين؛ أن ثوبوا إلى رشدكم وعودوا إلى ربكم ووثقوا صلتكم بالله؛ فإن الموت قريبٌ منكم جدًا، الموت فيك وأنت لا تدري، أجزاء جسمك تموت وتحيا في كل لحظة، حتى تأتي الموتة الكبرى التي لا موتة بعدها، وصدق الله العظيم إذ يقول ﴿وَفِیۤ أَنفُسِكُمۡۚ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ﴾ [الذاريات 21]