مع حديثنا المتجدد حول «الموسوعية والعلماء الموسوعيين في الحضارة الإسلامية»، نعيش اليوم مع عالمٍ آخر من أعلام الحضارة الإسلامية، الذين تميزوا بالتعمق والتفوق في مختلف العلوم، والنبوغ في مجالات مختلفة؛ لنأخذ من مسيرتهم الأمل وعلو الهمة في توجيه مسارات حياتنا إلى القمة والنجاح.
ألا وهو العلامة أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الشهير بالـ «الكندي»؛ وذلك نسبة إلى قبيلة «كندة» التي ينتمي لها.
إنه الكندي فيلسوف العرب، وأبو الفلسفة الإسلامية، الرجل الذي كان عَلَامة فارقة في كل ميادين العلم، وكانت موسوعيته الفكرية آية من الآيات المدهشة، التي ظل العالَم كله حائرًا في تركيبها، وعاجزًا عن تصورها فضلًا عن مضاهاتها والإتيان بمثلها.
إنه العقل المُدهش، الذي شاءت له الإرادة الإلهية أن يكون آية متألقة في الفلك والفلسفة والكيمياء والفيزياء والطب والرياضيات والموسيقى وعلم النفس... في وقت واحد وعلى درجة واحدة من الإبداع والنبوغ.
أجل، لقد كان للكندي إسهامات عظيمة في كل هذه الميادين العلمية، المتباعدة الأطراف، ولا تتعجب، فهذا الاستبحار الثقافي والتوسُّع المعرفي كان دَيْدَنًا لحضارة العرب والمسلمين في عصورها الزهراء.
وإذا كان من البَدَهي أنني لا أستطيع الإلمام بسيرة الكندي ومسيرته العلمية المتوَّجة بالإنجازات والاكتشافات، في هذه السطور البسيطة التي تحكمها أهداف البحث؛ فإنه يكفي بالإشارة إلى أبرز المَعَالم التي تبرهن على موسوعية الكندي في ميادين العلوم المختلفة.
ولعل «مؤلفات» الرجل هي أسطع برهان على موسوعيته، ومع ذلك لا مانع أن نشير إلى بعض إنجازاته واكتشافاته.
⬅️أما عن مؤلفات الكندي، فلقد كتب في الفلسفة: كتاب «الفلسفة الأولى فيما دون الطبيعيات والتوحيد»، وكتاب «الحث على تعلم الفلسفة»، و«رسالة في أن لا تُنال الفلسفة إلا بعلم الرياضيات»، وكان له الجهد الأكبر في تطوير الفلسفة الإسلامية، حتى عُدَّ «أبو الفلسفة الإسلامية».!!
⬅️وألَّف في المنطق: «رسالة في المدخل المنطقي باستيفاء القول فيه»، ورسالة في «الاحتراس من خدع السفسطائيين»... إلخ.
⬅️وله في علم النفس: «رسالة في علة النوم والرؤيا وما ترمز به النفس».
⬅️أما عن علم الفلك: فله «رسالة في علل الأوضاع النجومية»، ورسالة في «علل أحداث الجو»، ورسالة في «ظاهريات الفلك»، ورسالة في «صنعة الاسطرلاب».
وله كتاب «الحكم على النجوم» يحتوي على أربعين فصلًا في صورة أسئلة وأجوبة، كما أنَّ له العديد من الأطروحات حول «أشعة النجوم» و«تغيرات الطقس» و«الكسوف» و«روحانيات الكواكب».
⬅️وأما عن علم الحساب والرياضيات: فله رسالة في «المدخل إلى الأرثماطيقي»، ورسالة في «استعمال الحساب الهندسي»، ورسالة في «تأليف الأعداد»، ورسالة في «الكمية المضافة»، ورسالة في «النسب الزمنية».
وله كتاب «في استعمال الأعداد الهندية»، في أربعة مجلدات، وكان وسيلة قوية في نشر النظام الهندي للترقيم في منطقة الشرق الأوسط وأوروبا.
⬅️وأما عن علم الهندسة: فله رسالة في «الكريات»، ورسالة في «أغراض إقليدس»، ورسالة في «تقريب وتر الدائرة»، ورسالة في «كيفية عمل دائرة مساوية لسطح إسطوانة مفروضة».
⬅️وأما عن علم الطب فللكندي أكثر من ثلاثين أطروحة في الطب، مثل: رسالته في «الطب البقراطي»، ورسالته في «وجع المعدة والنقرس»، ورسالته في «أشفية السموم»، وكتاب «رسالة في قدر منفعة صناعة الطب»، الذي أوضح فيه كيفية استخدام الرياضيات في الطب، حيث وضع مقياسًا رياضيًا لتحديد فعالية الدواء، إضافة إلى نظام يعتمد على أطوار القمر، يسمح للطبيب بتحديد الأيام الحرجة لمرض المريض.
⬅️وأما عن علم البصريات والفيزياء: فله رسالة في «اختلاف مناظر المرآة»، ورسالة في «سعار المرآة»، ورسالة في «المد والجزر».
وكانت له اكتشافات جليلة في هذا الباب، تحدث عنها الإيطالي جيرونيمو في القرن السادس عشر فقال: «إن الكندي يُعد واحداً من اثني عشر عقلاً عملاقاً في التاريخ؛ لأنه بحث في كيفية سير أشعة الضوء على خط مستقيم، وتحدث عن الإبصار بمرآة ومن دون مرآة، وعن أثر المسافة والزاوية في الإبصار وفي الخداع البصري»
وتحدث عنه العالم الدانماركي سيباستيان فوغل في القرن العشرين فقال: «إن روجر بيكون لا يعتبر الكندي واحدًا من سادة الرسم المنظوري perspective فحسب، بل هو وأمثاله في المنظور الخاص به، يرجَعون إلى الكندي ويأخذون من علمه في البصريات».
⬅️وأما عن علم الكيمياء: فله «رسالة في كيمياء العطر»، ورسالة في «العطر وأنواعه»، ورسالة في «التنبيه على خدع الكيميائيين»، ورسالة في «أنواع الجواهر الثمينة»، ورسالة في «أنواع السيوف والحديد»، ورسالة في «أنواع الحجارة».
كما قدَّم أبحاثًا واسعة وتجارب في الجمع بين روائح النباتات عن طريق تحويلها إلى زيوت.
⬅️وأما عن علم الموسيقى: فيعتبر الكندي أول من وضع قواعد للموسيقى في العالم العربي والإسلامي، فاقترح إضافة الوتر الخامس إلى العود، وقد وضع الكندي سُلَّمًا موسيقيًا ما زال يستخدم في الموسيقى العربية من أثنتي عشرة نغمة، وتفوق على الموسيقيين اليونانيين في استخدام «الثمن». كما أدرك أيضًا التأثير العلاجي للموسيقى، وحاول علاج صبي مشلول شللاً رباعيًا بالموسيقى.!!
ويُذكر أنَّ للكندي خمسة عشر أطروحة في نظرية الموسيقى، لكن للأسف لم يبق منها سوى خمسة فقط، وهو أول من أدخل كلمة «موسيقى» للغة العربية، ومنها انتقلت إلى الفارسية والتركية، وعدة لغات أخرى في العالم الإسلامي.
من أبرز هذه الأطروحات «رسالة في المدخل إلى صناعة الموسيقى»، و«رسالة في الإيقاع».
⬅️كذلك كان له باع في علم «التعمية»، أو ما يُعرف الآن بعلم الشفرة «Cryptology»، وهو العلم الذي يهتم بتحويل نص واضح إلى نص آخر غير مفهوم باستعمال طريقة معينة يستطيع من يعرفها أن يفهم النص.
فألَّف الكندي «رسالة في علم التعمية واستخراج المعمى» حققها مجمع اللغة العربية في دمشق... وهي أول رسالة عربية يعود تأليفها إلى النصف الأول من القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي).
وفي هذا الكتـاب سـبق الكندي الإيطالي «ألبرتو» بسبعة قرون إلى وضع أول مخطوط في استخراج المعمى، وسبق «بورتا» الذي جاء في القرن السادس عشر الميلادي إلى استحداث طرق جديدة في الشفرة (التعمية).
نعم، هذا هو أبو يوسف الكندي، وهذا تراثه، وذاك موسوعيته التي وسعت مختلف العلوم، إنه حقًا آية من آيات اللة في العلم، فيا ليت شبابنا يتخذوه - وغيره من أعلام حضارتنا - قدوة في حياتهم ومسيرتهم، بدلا من القدوات المزيفة التي ينبهرون بها اليوم؛ لعلنا نتجاوز هذه الأزمة وتلك الفترة الصعبة التي حلت بنا.