تحدثنا في المقالات السابقة عن موسوعية الحضارة الإسلامية، وكيف كانت وكيف أصبحت، ثم ذكرنا بعض الأسباب التي أدت إلى اختفائها، ثم بعد ذلك أكدنا على جواز حدوثها بذكر أعلام العرب والمسلمين الذين اتصفوا بتلك الموسوعية في العلم والفكر، وجمعوا بين العديد من مختلف العلوم في آن واحد وتميزوا فيها جميعا على مستوى واحد.
فذكرنا جعفر الصادق، وابن النفيس، وابن سينا، وابن رشد، واليوم بإذن الله نستكمل هذه السلسلة المباركة بواحد من أبرز النابغين، لا أقول في حضارة العرب والإسلام فقط بل في حضارة الإنسانية عمومًا منذ أن عرف الإنسان البشري معنى الحضارة.
ألا وهو «أبو نصر الفارابي»، أحد أعلام القرن الثالث والرابع الهجري، الذي يُعد «أول فلاسفة الإسلام» - رغم أنه قد أتى بعد الكندي - كما أُتفق على أنه «المعلم الثاني بعد أرسطو»، وهو من العلماء الموسوعيين الذين جمعوا بين العلوم المختلفة، ومكتبات العالم تشهد بذلك.
فقد صنَّف الرجل في الفلسفة والمنطق وعلم الاجتماع البشري وعلم النفس والشعر والخطابة واللغة والسياسة والموسيقى . . . وله أرآء ونظريات قوية في علم الكيمياء والفيزياء والفلك والطب.
⬅️فمن مصنفاته في الفلسفة: كتاب الموجود الّذي ليس لوجوده سبب، والعقول الفعّالة، والنّفوس السّماويّة، والنّفوس الإنسانيّة، والمسائل الفلسفية والأجوبة عنها، وأغراض فلسفة أفلاطون وفلسفة أرسطو، والسيرة الفاضلة، ورسالة التنبيه إلى سبيل السعادة، والجمع بين رأيي الحكيمين . . . إلخ.
⬅️ومن مصنفاته في المنطق: رسالة فيما ينبغي الاطلاع عليه قبل قراءة أرسطو، ورسالة في المنطق، والقول في شرائط اليقين، ورسالة في القياس، ورسالة في ماهية الروح، ورسالة في العقل، وكتاب التحليل وكتاب الأمكنة المغلطة وكتاب المقولات وكتاب العبارة، والموفق والشارح، والألفاظ المستعملة في المنطق . . . إلخ.
⬅️وله في الشعر والخطابة: كتاب «ريطوريقا»، وكتاب «بوطيقا»، ورسالة في قوانين صناعة الشّعر . . . إلخ.
⬅️وله في الموسيقى: كتاب «صناعة علم الموسيقى»، وهو من أهم المراجع في هذا الفن؛ إذ شرح فيه الفارابي المبادئ الفلسفية المتعلقة بالموسيقى وخاض في خصائصها العامة، وأثرها، كما ناقش مسألة العلاج بالموسيقى والآثار الشفائية للموسيقى على الروح إلى آخر ما يحتويه الكتاب.
وفيه قال ابن كثير في البداية والنهاية: «وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالْمُوسِيقَى، بِحَيْثُ كَانَ يَتَوَسَّلُ بِصِنَاعَتِهِ إِلَى التَّأْثِيرِ فِي الْحَاضِرِينَ مِنْ مُسْتَمِعِيهِ، إِنْ شَاءَ حَرَّكَ مَا يُبْكِي أَوْ مَا يُضْحِكُ أَوْ مَا يُنَوِّمُ».
⬅️وله في علم الاجتماع: كتاب «آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها»، الذي وضع فيه تصوراته - المصبوغة بصبغة دينية - حول قيام مجتمع فاضل لا حروب فيه ولا كروب ولا طغيان ولا مشكلات.
⬅️وله في السياسة: كتاب السياسة، وكتاب السياسة المدنية.
⬅️وله في اللغة: كتاب الحروف . . .
⬅️ هذا، وبجانب تلك العلوم الفلسفية والأدبية فله تسعة كتب في الرياضيات متفرقة في مكتبات العالم باللغتين العبرية واللاتينية إضافة لتسعة كتب أُخرى في مجالات العلوم المختلفة، أشار إليها أصحاب التراجم، لكنها للأسف ضاعت مع ملايين الكتب التي ضاعت جراء الهجمات التترية والحروب الصليبية.
⬅️ كما له في الفيزياء: مقولة قصيرة باسم «الخلاء» ناقش فيها ماهية الفراغ، ويُرجِّح العلماء بأنّه أول من قام بتجربة علمية للتحقق من وجود الفراغ، حيث قام بمراقبة ودراسة المكابس المغمورة بالماء، ومن ثم توصّل في استنتاجه في أن الهواء دائمًا ما يتمدد حتى يملئ الفراغ الموجود، وعليه رفض فكرة وجود الفراغ باعتبارها فكرة غير منطقية.
⬅️وله في الكيمياء: مقالة في وجوب صناعة الكيمياء والرد على مبطليها، وكتاب «عيون المسائل»، وكتاب آخر بعنوان «كلام في الجزء وما يتجزأ»، وقد تحدثنا عن ذلك بالتفصيل في كتابنا «رحلة الكيمياء في الحضارة الإسلامية».
⬅️بل في كتابه الموسوم «إحصاء العلوم» تحدث عن علم الهندسة، وعلم الأثقال والحيل (الميكانيكا)، وعلم المناظر (البصريات)، وعلم النجوم . . . بل تحدث عن علم الفقه وعلم الكلام وغير ذلك من العلوم، مما جعل بعض العلماء الغربيين أمثال (كازيري وبركلمان) يقولون بأن هذا الكتاب هو بمثابة «دائرة معارف».
وهكذا نرى أننا أمام موسوعة علمية فريدة قد اجتمعت في شخصية إسلامية، لم تعرف مجتمعات الغرب - المتشدقة بحضارة مزيفة الآن - لها نظير على الإطلاق.
من أجل ذلك كان الفارابي جديرًا باحترام العالمين له، فتسارعت البلاد قديمًا وحديثًا تتفنَّـن في كيفية إكرامة، فنرى بعض الدول تطبع اسمه ورسمه على العملات المالية تخليدًا لذكراه في ذاكرة الأجيال، ونرى بعض الدول تنحت له التماثيل التذكارية، وتتسمَّى باسمه الأماكن والشوارع والمؤسسات ....
وكل هذا شيء حَسن، لكنَّ الأحسن هو تخريج أجيال حية كالفارابي في علمه وفكره واهتمامه بقضايا مجتمعه وبني جنسه . . .
وأولى الخطوات لتحقيق ذلك هو دراسة ومعرفة جهود هؤلاء العلماء؛ ومَنْ وعى التاريخ في عقله فقد أضاف أعمارًا إلى عمره.
هذا ما نريده وننشده والله المرجوّ وهو على كل شيء قدير.