استكمالا لسلسلتنا التي جاءت تحت عنوان (الموسوعية من أبرز معالم الحضارة الإسلامية) نعيش الآن مع واحد من هذه الدوحة الموسوعية المُدهشة التي وُصفت بأنها «من أعظم العقول التي عرفتها الثقافة الإسلامية في القرون الوسطى».
ذلك الرجل الذي عاش بين القرنين الرابع والخامس الهجري، متنقلا بين البلدان، لا يعرف له مقر ولا مستقر، طلبًا للعلم وبحثًا عن المعرفة.
ألا وهو العالم الموسوعي الشهير «أبو الريحان البيروني»، الذي كان معاصرًا للشيخ الرئيس ابن سينا، وقد كان بينهما مراسلات ومباحثات علمية، محققة ومطبوعة.
ولطالما احتار المحققون في تصنيف هذا الرجل، أهو من الأطباء، أم هو من الفلكيين، أم هو من المؤرخين، أم هو من الفيزيائيين، أم هو من أهل الكيمياء، أم هو من الفلاسفة، أم من الأدباء، ...
ومنشأ تلك الحيرة أن هذا العالم كان موسوعيًا صنَّف وكتب وأنجز في كل مجالات العلم تقريبًا.
فكان رحّآلةً وفيلسوفًا وفلكيًا وجغرافيًا وجيولوجيًا ورياضياتيًا وصيدلانيًا ومؤرخًا ومترجمًا... كل ذلك في وقت واحد!! ومكتبات العالم تشهد بذلك.
⬅️ففي علم الفلك: كان البيروني فلكيًا ألمعيًا، صنَّف فيه التصانيف الكثيرة، ووضع فيه النظريات الجليلة، فله كتاب «الاستيعاب في صنعة الأسطرلاب»، وكتاب «الإرشاد في أحكام النجوم»، وكتاب «الاستشهاد باختلاف الأرصاد»، ورسالة «في الهيئة والنجوم والجغرافية»، وكتاب «مفتاح علم الفلك» وفيه قال بدوران الأرض حول محورها ليسبق بذلك علماء أوروبا بعشرة قرون.!!
كذلك له موسوعة «القانون المسعودي» التي كتبها إلى السلطان مسعود بن محمود الغزنوي، وهي أشهر ما كتبه البيروني، وتُعد من أهم المؤلفات التي وضعت في علم الفلك والأرصاد.!!
وكذلك من مصنفاته في الفلك: كتاب «التطبيق إلى تحقيق حركة الشمس»، وكتاب «في تحقيق منازل القمر»، وكتاب «تصور أمر الفجر والشفق في جهة الشرق والغرب من الأفق»، وكتاب امتحان الشمس، وكتاب جدول التقويم، وكتاب جدول الدقائق، وكتاب رؤية الأهلة، وكتاب كرية السماء.
من أجل ذلك وتكريمًا لجهوده الفلكية قام الغرب المعاصر بإطلاق اسمه على فوهة بركانية على سطح القمر.
⬅️وكذلك في علم الكيمياء: صنَّف كتابه الموسوم «الجماهر في معرفة الجواهر» تناول فيه المعادن الكيميائية وسلوكياتها وخواصها، كما وصف فيه الأحجار الكريمة بكل دقة، من حيث الصفات والعيوب وأماكن وجودها، ومنافعها، وكيفية إصلاحها، وجداول أسعارها في البلدان والأزمان، وما اشتهر من قِطعها النفيسة.
وله أيضًا مقالة في «النسب التي بين الفلزات».
⬅️وأما في مجال الفيزياء: فقد قال البيروني في كتابه «القانون المسعودي» بأن الأثقال تُشدُّ إلى أسفل، متعرضًا في ذلك لمفهوم الجاذبية الأرضية، قبل أن يكتشفها "نيوتن" المتوفى سنة 1727م.!!
واخترع أبو الريحان البيروني «المقياس المخروطي»؛ لإيجاد النسبة بين وزن المادة في الهواء ووزنها في الماء المزاح، ولكي يقيس بدقة الوزن النوعي للأحجار الكريمة والمعادن الثمينة أيضًا، وهي قريبة جدًا من القياسات الحديثة.
كما اخترع البيروني «القارورة المخبرية»، والمِثْقلة أو مقياس الكثافة «البكينومتر Pycnometer» في بدايات القرن الحادي عشر.
⬅️وأما عن علم الهندسة: فله كتاب «استخراج الأوتار في الدائرة بخواص الخط المنحني فيها»، وكتاب المسائل الهندسية، وكل كتاباته عن الجغرافيا والفلك مليئة بمسائل الهندسة وحساب المثلثات.
⬅️وأما في مجال الطب والصيدلة: فله كتاب «الصيدنة في الطب»، وهي موسوعة ضخمة في الأدوية واستعمالاتها.
وله أيضًا كتاب «العقاقير» الذي يتضمن وصف خصائص وفوائد ألف عقار مستخرج من النباتات والأعشاب والحيوانات والمعادن.
⬅️هذا وبجانب نبوغه في العلوم التطبيقية والطبيعية، فقد كان نابغًا في علوم الجغرافيا: حيث وضع كتاب «تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن»، الذي قام فيه بتحديد العروض الجغرافية والاختلافات في تحديد أطوال المواضع.
وكتاب «تقاسيم الأقاليم» الذي أخبر ياقوت الحموي في معجمه الأدبي بأنه وجده مخطوطا بخطه.
وأيضًا له كتاب «إيضاح الأدلة على كيفية سمت القبلة»، ورسالة في «تهذيب الأقوال في تصحيح العرض والأطوال».
كما له عدة مقالات في هذا المجال مثل: مقالة في تصحيح الطول والعرض لمساكن المعمور من الأرض، ومقالة في تعيين البلد من العرض والطول، ومقالة في استخراج قدر الأرض برصد انحطاط الأفق عن قلل الجبل، ومقالة في اختلاف ذوي الفضل في استخراج العرض والميل.
⬅️وكذلك صنَّفَ البيروني في التاريخ: موسوعة «الآثار الباقية عن القرون الخالية» وهي دراسة نقدية مقارنة لتواريخ وثقافات الحضارات السابقة، مصبوغة بالكثير من المعلومات الفلكية والرياضياتية والتاريخية.
وكذلك موسوعة «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة»، والذي استعرض فيها كل جوانب الحياة الهندية، من الدين والتاريخ والجغرافيا والجيولوجيا والعلوم والرياضيات، وكل عاداتهم وثقافتهم وحياتهم، فهي تعد أكبر وأشمل موسوعة لتاريخ الهند القديم، وهي خلاصة رحلة استمرت 40 سنة عاشها البيروني في الهند.
وكذلك له كتاب «تاريخ الأمم الشرقية»، وكتاب «تاريخ ايام السلطان محمود وأخبار أبيه»، وكتاب «المسامرة في أخبار خوارزم»، وكتاب «تنقيح التواريخ»، وكتاب «التعلل بإجالة الوهم في معاني منظوم أولي الفضل».
كما أنَّ للبيروني عدة موسوعات جمعت في طياتها العديد من العلوم، مثل: «التفهيم لصناعة التنجيم» وهي موسوعة تعرضت لمصطلحات الهندسة والحساب والفلك والجغرافيا والأوقات، ووصفت الأجهزة الفلكية، كتبها بأسلوب الأسئلة والأجوبة.
⬅️كذلك كان البيروني أديبًا بليغًا وأريبًا فصيحًا، حيث شرح «ديوان أبي تمام»، وله كتاب «مختار الأشعار والآثار».
بل إنَّ ياقوت الحموي عَدَّهُ في «معجم الأدباء» من كبار الأدباء البلغاء، وذكر له بعضًا من أشعاره.
⬅️كذلك كان - رحمه الله - صاحب مؤلفات عديدة في الفلسفة، مثل: كتاب «المقالات والآراء والديانات»، وكتاب «مفتاح علم الهند»، وكتاب «جوامع الموجود في خواطر الهنود»، وكتاب «الفلسفة الهندية» الذي ذكر فيه أحوال الهند واعتقادهم في الله وفي الموجودات العقلية والحسية، وفي سبب الفعل وتعلق النفس بالمادة وغير ذلك من الأمور الفلسفية.
هكذا كان اهتمام وإخلاص أبو الريحان البيروني للعلم، وظل هكذا إلى آخر يوم في حياته، حتى أن آخر ما سأل عنه وهو على فراش الموت، مسألة في علم المواريث، لم يكن يعرفها، وقال في ذلك قولته المشهورة: «أودع الدنيا وأنا عالم بمسألة خير من أن أتركها وأن جاهل بها».
فرحمةُ الله على هذا العالم الموسوعي، وعلى إخوانه من علماء الحضارة الإسلامية، الذين عاشوا في العالمين مصابيح هدى ونور، وذلك فضل الله يؤتيه مَنْ يشاء والله ذو الفضل العظيم.