من محاسن الأقدار أنني وأنا في القاهرة بالأمس وجدتُ نفسي على بُعد خُطوات من مسجد السيدة سكينة بنت الحسين، على غير ترتيب؛ لأنني لم أكن أعلم أن السيدة سكينة تسكن هنا، ولكن ما إن علمتُ إلا واستشعرت الحَرَج أن أكون قريبًا منها ولا أذهبُ إليها وأُسُلِّمُ عليها، وهي مَن هي؟!
هي السيدة سكينة (بضم السين أو فتحها) بنت مولانا الإمام الحسين بن علي، سليلة بيت النبوة، الذين أمرنا الله وسوله بحُبِّهم وودِّهم وذكّرهم، كما في صحيح مسلم: «أنا تارك فيكم ثقلين، أولهما: كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، وثانيهما: أهل بيتي، أذكِّرَكُمُ الله في أهل بيتي، أذكِّرَكُمُ الله في أهل بيتي، أذكِّرَكُمُ الله في أهل بيتي». رواه مسلم.
من أجل ذلك ذهبتُ إليها في طَرَبٍ وفَرح، ودخلتُ مسجدها وصليت فيه ركعتي التحية، ثم وقفتُ أمام قبرها المبارك، وأنا أستعيدُ كلَّ ما في ذهني عن هذه السيدة الجليلة من معلومات، فتذكرتُها يوم كربلاء وهي فتاة جميلة بنت 14 سنة واقفة مع عمتها السيدة زينب تصرخ على أبيها الحسين الذي قتلوه بأبشع الطرق أمام أبناءه وبناته وأهل بيته.
تَذَكَّرتُها وهي مكبولة بالسلاسل مع أمها الرباب وعمتها زينب وإخوتها (فاطمة وحورية وعلي زين العابدين) وسبعين من آل البيت إلى عُبيد الله بن زياد في الكوفة ثم إلى يزيد بن معاوية في الشام.
تذكَّرتُ تلك السيدة الجميلة الأنيقة التي كانت تُقلِّدها بنات عصرها في قَصَّة شَعرها وفي لباسها ومظهرها، حتى كاد الصبيان أن يقلدوها إلا أنَّ سيدنا عمر بن عبد العزيز تصدى لهم ومنعهم.
تذكَّرتُ تلك المرأة الفقيهة العالمة بالأحكام الحافظة للحديث، التي كانت تحرص على تعليم بنات جيلها أحكام الإسلام وخاصة فقه النساء.
تذكَّرتُ تلك السيدة التي كانت تُقيم الندوات الأدبية في بيتها، ليحضرها كبار الشعراء والأدباء أمثال الفرذدق وكُثير عزة وجرير وليلى الأخيلية وجَميل بثينة، لتكون أول امرأة تقيم «الصالون الأدبي» كما نسميه اليوم.
تذكَّرتُ تلك السيدة الشاعرة الناقدة الأدبية، التي كانت تصوغ الشعر وتُحكِّم بين الشعراء كما حدث بين جرير والفرزدق... ولما لا؟! وأمها (الرَّبَاب) بنت امرئ القيس الكِنْدِيِّ - ملك بني كلب - الشاعرة الكبيرة.
وللأسف لم يحفظ لنا التاريخ من شعرها غير الرثاء، كما تقول الدكتورة عائشة عبد الرحمن في كتابها عنها: «إنه لم يصل لنا من أشعار سكينة غير شعر الرثاء؛ لأن الرواة أسقطوا أشعارها الأخرى، ليقصروا المجال الفنى للمرأة على الرثاء، كما فعلوا ذلك مع الخنساء وأمها الرباب أيضًا التي كانت تكتب الشعر ولها أبيات في رثاء زوجها».
تذكَّرتُ تلك السيدة التي افتتن بشخصيتها المؤرخون؛ فكرَّسوا لها صفحات وصفحات بل وسير كاملة، كالطبرى في الرسل والملوك، وابن سعد في كتابه الطبقات، وأبى الفرج الأصفهاني في الأغاني، وابن عساكر في تاريخ دمشق في الجزء المخصص لسير النساء، وابن حسان في كتابه الحدائق الغناء في أخبار النساء، وغيرها.
تذكَّرتُ تلك المرأة الشجاعة التي وقَفَتْ أمام الحجاج الثقفي - بعد أن رفضت طَلبهُ للزواج منها - تعطيه درسًا قاسيًا، لا يصدر إلا عن امرأة قوية فصيحة كالسيدة سكينة بنت الحسين.
ورأيتُ نفسي أردد قول القائل فيها:
هذي السُكيْنةُ بنت مولانا الحسين
سِبطِ النبي المصطفى طه الأمين
نورُ النبوة شَعَّ فى رَوضٍ لها
فيه السَكِينةُ في وقار المخبتين
لمَّا أتيتُ وقلتُ: ألفَ تحيةٍ
مني على بنت الكرام الأكرمين
قالت: بُني، جزاك ربي خير ما
يجزي الضيوف المخلصين
ثم رفعت يدي للسماء وقلت: يا ربِّ ببركة المكان والزمان وبحق هذه الزيارة والحّب الذي نحملهُ في صدورنا لأهل البيت الكرام أن ترضى عنا ... وأخذت أدعوا الله لنفسي وأهلي وبلدي وأمتنا الإسلامية والعربية بصلاح الحال وقصد السبيل.
ثم سَلَّمتُ وانصرفت، وهذه هي أداب الزيارة فيما قرأتهُ وتعلمتهُ، ونسأل الله الرضا والقبول.