نحن جميعا نعلم أن اللغة «الهيروغليفية» هي اللغة التي كان أجدادنا المصريون القدماء يتحدثون بها، ومن المشهور جدًا أن «شامبليون» هو الذي فك طلاسم وشفرات تلك اللغة في القرن التاسع عشر الميلادي، من خلال حجر رشيد، بعدما جاء إلى مصر مع الحملة الفرنسية.
كل هذه معلومات نعرفها منذ تعليمنا الأول، ولكن للأسف هذه ليست كل الحقيقة التي يجب أن يعرفها الناس؛ لأن شامبليون ليس هو أول مَن تعرَّف على هذه اللغة العميقة، بل كانت هناك جهود جبارة ومحاولات مثمرة قبلهُ بقرون، وليس هذا كلامًا يقال، بل هو واقع، يستطيع أيُّ إنسان أن يبحث عنه ويتأكد بنفسه إن كان فعلا يريد الحقيقة.
أرجوا أن تقرأوا في سيرة الإمام الصوفي «ثوبان الإخميمي» المشهور بـ «ذو النون المصري»، وهو من إخميم بسوهاج، لتعلموا كيف استطاع أن يفك حروف الهيروغليفية في القرن التاسع الميلادي (ت: 859م)، أي قبل شامبليون بعشر قرون!!.
لكنَّ للأسف كتاباته قد حُرقت؛ لإعتقاد الناس أن هذا كفر وأن الحضارة المصرية القديمة من آثار فرعون موسى الذي أغرقه الله ولعنه في قرآنه، لذلك رموهُ بالزندقه وأوقعوا به عند أمراء الدولة العباسية فسجنوه، بَدَلا من أن يُكرِّموه!!.
وليس ذو النون المصري هو مَن حاول وحده من علماء الإسلام في فك خطوط اللغة الفرعونية، وإن كان أبرزهم؛ إلا أنَّ هناك علماء كُثُر غيره لهم جهود كبيرة، على سبيل المثال (وليس الحصر):
أبو الكيمياء جابر بن حيان المتوفي 815م، والذي في كتابه (حل الرموز ومفاتيح الكنوز)، وفي كتابه (الحاصل في علم الميزان) أبدى محاولات عظيمة لقراءة وفهم بعض الرموز الفرعونية!.
كذلك العالم المسلم العراقي ابن وحشية النبطي المتوفي سنة 914م، قد ألّف كتابًا اسمه (شمس الشموس وقمر الأقمار في كشف رموز الهرامسة وما لها من الخفايا والأسرار)، وأيضًا له مخطوط بعنوان (شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام)، وقد اكتشف أن الرموز الهيروغليفية هي رموز صوتية وقام بتحليل العديد منها، ومن الجدير بالذكر أن المستشرق النمساوي جوزيف همرفون قام بترجمة تلك المخطوطة للإنجليزية ونُشرت في لندن عام 1806م أي قبل 16 عاما من اكتشاف شامبليون!!.
كذلك "أبو القاسم العراقي المصري" الذي عاش بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلادي، والذي كتب (الأقاليم السبعة)، والذي تضمن نسخًا لبعض النصوص المصرية القديمة، كما تضمن جدولًا للحروف البرباوية (أي الهيروغلفية) جاءت قراءته لبعضها صحيحة.
كذلك كان "لابن الدريهم الموصلي" المتوفى سنة 763م إسهامات جليلة؛ دوَّنها في كتابه (مفتاح الكنوز في إيضاح المرموز)، كذا ابن إسحاق الكندي في كتابه (رسالة الكندي في استخراج المعمي) له جهود في الكشف عن أسرار الخط الهيروغليفي وفك رموز اللغة المصرية القديمة.
كل هذه الجهود كانت قبل شامبليون بقرون عريضة.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: أين هذا التراث اليوم؟
والجواب - في الحقيقة - مُبكي؛ لأن هذا التراث قد حُرقَ مع ما حرقه الناس بدعوى أنه سحر ودجل، وبعضه تَلَف مع ما أتلفته وأحرقته التتار بعد دخولها بغداد، ومنه ما دُمر مع حرق المكتبات المصرية قديما وحديثا، والقلة النادرة من هذا التراث لا يزال مخطوطًا في مكتبات العالم، يصرخ ويستنجد مما وقع له.
فيا قارئ التاريخ انتبه ولا يغرنك مظاهر الغرب الخدَّاعة، فلولا علماء مصر والعرب والمسلمين لَمَا كان لأوروبا أن تنهض أبدًا، والتاريخ على ذلك شهيد، في كثير من المجالات، هذه واحدة منها.
ولأجل ذلك ينبغي علينا أن نُعلِّم أطفالنا هذه الحقيقة في مدارسهم ومعاهدهم؛ لكي يعرفوا مَنْ هم؟ وأبناء مَنْ يكونون؟ لعل يَخرجُ منهم أجيالا تكون خير خلف لخير سلف، والله على كل شيء قدير.