في الحقيقة هذا العنوان البليغ استعرتهُ من عنوان كتاب للطبيب حسان شمسي باشا، وهو كتاب ماتع، يقارن فيه بين حالة الطب عند المسلمين الأوائل في عصر الحضارة الإسلامية وبين الحالة التي كان عليها الطب في أوروبا حينئذ.
والحقُّ أنَّ مَنْ يستقرأ هذا الكتاب، لا يَسعهُ إلا أن يبكي، إذ يجد نفسهُ أمام حضارة عظيمة، كان يمتدُ نورها إلى الدنيا قاطبة، وكان يرتشفُ من مَعيِّها الصافي كلُّ العالمين.
كانت الحضارة الإسلامية قلعة التقدم والتمدن العلمي والصناعي والثقافي والإنساني في حين كانت أوروبا تعيشُ في صراعٍ بغيض وظلامٍ سحيق وجهلٍ عميق.
في هذا الكتاب نتعرف على انجازات أطباء المسلمين، وجهودهم التي جعلت من الطب علم ومنهج وصناعة دقيقة، بأبحاثهم ومؤلفاتهم وما اخترعوه من أدوات.
في هذا الكتاب نتعرف - بقلم المؤلف - على أهم المستشفيات التي بناها المسلمون، وكيف كانت أوروبا تقصدها متوسلة العلاج والتداوي حينها.
نتعرف على عظمة الحضارة الإسلامية في طب العيون والتشريح وطب الأطفال وعلاج الأمراض المزمنة، بالأدوية الطبيعية وكذلك بالأدوية التي حضَّرها الكيميائيون المسلمون، وما اخترعوه من أدوات جراحية كانت هي الأولى من نظيرها، وإنَّ ما فعلتهُ أوروبا بعد ذلك ما هو إلا تطوير لهذه الأدوات الجراحية فقط.
نتعرف على أبرز الكتب والمراجع الطبية التي كانت هي المصدر الطبي لأوروبا إلى وقت قريب جدًا، مثل كتاب «الحاوي» في الطب لأبي بكر الرازي المتوفى 925م، وكتاب «القانون» لابن سينا المتوفى 1037م، وكتاب «مختارات الطب» لأبي الحسن بن هُبل البغدادي المتوفى 1213م، وكتابي «فن الطب» و«الشامل في الصناعة الطبية» لابن النفيس المتوفى 1288م، وغير ذلك.
في الحقيقة، الطب مَدِين لعلماء المسلمين بالكثير، وأوروبا مدينة لجهود ومؤلفات المسلمين بالكثير والكثير، ومن العجيب أنَّ معظهم لا ينكرُ ذلك، فهذه بعض شهادات علماء الغرب حول إبداع الحضارة الإسلامية في مجال الطب:
1- تقول الدكتورة زيجريد هونكة في كتابها «شمس العرب تسطع على الغرب»: «قبل 600 عام كان لكلية الطب الباريسية أصغر مكتبة في العالم، فلا تحتوي إلا على مؤلف واحد، وهذا المؤلف كان للعربي الكبير أبي بكر الرازي، وكان هذا الأثر العظيم ذا قيمة كبيرة، بدليل أن ملك المسيحية الشهير لويس الحادي عشر، اضطر إلى دفع اثني عشر ماركاً من الفضة ومائة تالر (الدولار اليوم) من الذهب الخالص لاستعارة هذا الكنز الغالي رغبة منه في أن ينسخ له أطباؤه نسخة منه، يرجعون إليها إذا ما هدد مرض أو داء صحته أو صحة عائلته».
2- يقول الباحث الألماني الدكتور بير بـورمـان: «إن إنجازات المسلمين في العالم واضحة جلية في كل شئون العلوم والثقافة، بل إن إنجازاتهم في مجال الطب لا يستطيع أحد إنكارها، وهذا هو ما دفعني إلى تأليف كتاب بعنوان: (الطب الإسلامي في القرون الوسطى)».
وقال أيضا: «دفعني لتأليف هذا الكتاب أنني كمسيحي ألماني أدين بالفضل في جزء من ثقافتي للثقافة الإسلامية، وهذا ما أحاول توضيحه وتأكيده، رغم محاولات البعض طمس الـدور المهـم الـذي لعبه المسلمون في أوروبا والعالم، ولقـد عـكـفـتُ أنـا وزميلتي الباحثة (إيميلي سافاج سميث) على رصد إنجازات المسلمين في مجال الطب في القرون الوسطى».
وأضاف قائلاً: «إن المستشفيات الإسلامية كـانـت عـبـارة عـن أوقاف إسلامية، وكانت تقدم الخدمة الطبيـة لكـل الناس بصرف النظـر عـن ديـانتهم؛ فهناك اليهود، والمسيحيون، والصابئة، والزرادشتيون، وغيرهم، فكـان المستشفى الإسلامي يعالج الجميع؛ وهذا يعني تسامحا إسلاميا كبيرا مع غير المسلمين». وعن أهم الأمراض التي أسهم فيها المسلمون بعلـم جـديـد، قال: «الكثير من الأمراض، إلا أن أخطرها هو مرض المالنخوليا».
3- يقول سديو Sudaio في كتابه «تاريخ العرب العام»: «كـان أطبـاء الـعـرب مـن الرجال الممتازين على الدوام.... وذاع صيت عدد من الأطباء ومـن هـؤلاء نذكر بختيشـوع بـن جبرائيـل الـذي اشتهر بمداواته العجيبة، غير أنه لا أحـد يعـدل الـرازي وابـن سـينا اللذين سيطرا بكتبها على مدارسنا زمنا طويلاً».
4- يقول أوسلر: «لقد عـاش كتـاب القانون في الطب لابن سينا مـدة أطـول مـن أي كتاب آخر كمرجع أوحد في الطب، ولقد وصلت عدد طبعاته إلى 15 طبعة في الثلاثين سنة الأخيرة من القرن الخامس عشر...... إن ابن سينا مَكَّن علماء الغـرب مـن الشروع بالثورة العلمية في مجال الطب، والتي بدأت فعلا في القرن الثالث عشر، وبلغت مرحلتها الأساسية في القرن السابع عشر».
هذا، وإن واجبنا تجاه تراثنا لعظيم، ليس فقط في أن نكون أطباء، فالحمد لله عدد الأطباء المسلمين الآن في زيادة عظيمة، ولكنَّ دورنا يجب أن يكون أكبر من ذلك، أن نكون مبدعين ومتفردين بالسيادة الطبية في العالم، كما أن واجبنا أن نفتخر بتراثنا وأن نُعلِّم أولادنا ملامح من إنجازات حضارتنا؛ حتى لا ينخدع بأكاذيب الإعلام والترويج الغربي الذي يريد أن يخلع العرب والمسلمين من هويتهم وحضارتهم وعقيدتهم.