حكايات الصالحين وما أدراك ما حكايات الصالحين، وما أهميتها وما مدى تأثيرها على القلوب والنفوس، ليست كمثل الحكايات التي يتحاكى بها الناس ليمزحوا ويفرحوا.
حكايات الناس يَغلبُ عليها الكذب والتدليس، أما حكايات الصالحين، أما حكايات العلماء العارفين، فلا تعرف الكذب ولا التضليل ولا النفاق، بل كلها مواقف صادقة، تُحيطها الأسرار والأنوار، التي يستفيد منها كُلُّ مَنْ أقبلَ عليها بذهنٍ صافٍ وقلبٍ حاضرٍ ونيةٍ طيبة.
وحكايات الصالحين جندٌ من جنود الله، يُثَـبِّـتُ اللهُ بها أفئدة أوليائه، قال تعالى: ﴿وَكُلࣰّا نَّقُصُّ عَلَیۡكَ مِنۡ أَنۢبَاۤءِ ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِۦ فُؤَادَكَۚ وَجَاۤءَكَ فِی هَـٰذِهِ ٱلۡحَقُّ وَمَوۡعِظَةࣱ وَذِكۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ [هود ١٢٠]
وقال تعالى: ﴿لَقَدۡ كَانَ فِی قَصَصِهِمۡ عِبۡرَةࣱ لِّأُو۟لِی ٱلۡأَلۡبَـٰبِۗ مَا كَانَ حَدِیثࣰا یُفۡتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصۡدِیقَ ٱلَّذِی بَیۡنَ یَدَیۡهِ وَتَفۡصِیلَ كُلِّ شَیۡءࣲ وَهُدࣰى وَرَحۡمَةࣰ لِّقَوۡمࣲ یُؤۡمِنُونَ﴾ [يوسف ١١١]
وقال جل شأنه: ﴿فَٱقۡصُصِ ٱلۡقَصَصَ لَعَلَّهُمۡ یَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف ١٧٦]
وقال سبحانه: ﴿وَتِلۡكَ ٱلۡأَمۡثَـٰلُ نَضۡرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ یَتَفَكَّرُونَ﴾ [الحشر ٢١]
وهكذا تخبرنا الآيات الكريمة أنَّ حكايات الصالحين وأخبارهم وتجاربهم كلها أنوار وأفكار وموعظة ورحمة وذكرى للمؤمنين، تُرسِّخ اليقين في القلوب وتأخذ بقلوب مستمعيها إلى علَّام الغيوب.
ولأهمية حكايات وأخبار الصالحين وأهل المعرفة بالله؛ حوى القرآن الكريم في ثناياه الكثير والكثير من حكايات الأنبياء والمرسلين والصالحين وأهل المعرفة بالله؛ في مقام الموعظة والذكرى والعبرة؛ وذلك لأن التجارب أصدق الأخبار، والحكايات - وخاصة حكايات الصالحين - ما هي إلا خريطة ترسم الطريق لكل مَنْ يريد أن يسلكه على بصيرة.
وكذلك السنة النبوية مليئة بالحكايات والأخبار التي تُروى عن الصالحين في العصور السابقة، مثل: حكاية جريج العابد، وحكاية الرجل الذي قتل مائة نفس من بني إسرائيل ثم تاب ومات على الإيمان، وحكاية ذو الكفل، وحكاية الثلاثة الذين أواهم المبيت إلى الغار وانسدت عليهم الصخرة ..... إلى آخر هذه الحكايات التي تصدح بالدروس والعبر والفوائد الاجتماعية والعقدية والتربوية.
ومن هنا، اهتم علماء المسلمين الأوائل بحكايات الصالحين، فأكثروا منها في مؤلفاتهم، فنرى حجة الإسلام أبو حامد الغزالي يذكر الكثير من حكايات الصالحين في إحياء علوم الدين، ونرى الإمام القشيري يُقيم (رسالته القشيرية) على حكايات الصالحين.
وأريد أن أقف مع الرسالة القشيرية فقط في هذا المقام؛ لأنها تمثل جزءًا نفيسًا في تراث الإسلام التربوي، هذه الرسالة التي توافدت العديد من البحوث والشروح والحواشي عليها قديما وحديثا؛ لأهمية ما فيها من حكايات تمثل خريطة طريق لكل من يريد أن يسلك الطريق إلى الله عن تجرية حقيقية.
فبعد قرنيين من كتابة هذه الرسالة جاء الإمام سديد الدين اللَّخْـمي واستخرج من هذه الحكايات الفوائد والدرر الثمينة في كتاب كبير أسماه (الدلالة على فوائد الرسالة)، ثم بعد ثلاثة قرون جاء شيخ الإسلام ذكريا الأنصاري وأحكم هذه الفوائد في كتاب أسماه (إحكام الدلالة على فوائد الرسالة)، ثم بعد قرن من الزمن جاء الإمام العروسي وشرح إحكام الدلالة.
كل هذا يرشدنا إلى أهمية حكايات الصالحين في التراث الإسلامي، وهذا أنموذجا واحدا فقط؛ وذلك لأن حكايات الصالحين ليست - كما قلنا - حكايات عادية تُروى للتسلية أو التسرية، ولكنها تمثل خريطة طريق حقيقية.
حيث هناك فرق بين من يَدُلُّك على الطريق الصحيح بما قرأه في الكتب، وبين مَن يذكر لك الطريق كما سَلَكَهُ هو من قبلُ وسَارَ في دروبه؛ فعرف منعطفاته وعقباته، فيخبرك خَبرَ مَنْ سَلك وجَـرَّب لا مَنْ سَمعَ فقط.
ولذلك قالوا:
إنمـا القــومُ مسـافرونَ ... لحضرة الله وذاعنون
فافتقروا فيه إلى دليل ... ذا علمٍ بالسفر والمَقيل
قد سلك الطريقَ ثم عاد ... ليُخبر القومَ بما استفاد
فاللهم يا ربنا اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واجعلنا من الراشدين، وانفعنا بالصالحين من عبادك، واجعلنا منهم برحمتك يا أرحم الراحمين.