وبعد، فإنَّ مَن يُمعن النظر والفكرة في سائر الكائنات الحية يجد أنَّ هناك مجموعة من الصفات والسلوكيات التي يشتركون فيها جميعا، كالتكاثر، وتكوين العائلة كما ذكرنا في مقال سابق، والتَكيُّف، والتغذية، والحياة والموت، والنوم والاستيقاظ، والحركة والسكون، إلى آخر هذه الصفات والسلوكيات.
ومن هذه السلوكيات أيضًا «الجماعة»، فكما أنَّ الإنسان يأنس بالجماعة ولا يستطيع أن يعيش وحيدًا منعزلا في هذه الحياة، فالكائنات الأخرى هي أيضًا لا تستطيع العيش في انعزال وتوحُّد، بل دائما ما تبحث عن تكوين الصداقات لتتعايش مع بني جنسها في تعاون ومحبة.
فها هي الطيور لا تسير إلا في تجمعات بديعة، وقلما تجدها تسبح في الفضاء وحيدة شريدة، دائما تتقوَّى بالجماعة، تهاجر معا، وتغدوا في أول النهار بحثا عن الطعام معًا، وتَرُوحُ آخر اليوم إلى عشها معًا (أسراب الحمام) !!.
وها هو عالم النمل لا يسير إلا في تجمعات، كي يشد بعضه بعضًا، وإذا ما مات أحد أفراده، اشتركوا جميعا في حَملِه إلى جحورهم !!.
كذلك عالم النحل، لا يطيب له العيش إلا في تجمعات وتشكيلات (خلايا النحل) !!.
وإذا ما نَزَلتَ في أعماق البحار لتستمتع بعالم الكائنات البحرية، ستجد أن الأسماك لا تتحرك إلا في تشكيلات وجماعات، في نظام بديع، يقودهم قائد منهم، لا يتخلَّف عن طاعته أحد !!.
وفي عالم المياه تجد الترابط والتماسك العجيب بين عدد لا نهائي من جزيئات المياه، ولولا هذا الترابط لتبخَّر الماء وانتهى، وهذه الجزيئات تتكون هي الأخرى من ذرات الهيدروجين والأوكسجين المجتمعة مع بعضها البعض.
وفي باطن الأرض لا توجد المعادن بصورة حرة، لكن تتواجد في صورة خامات وتجمعات من المعادن المختلفة !!.
وإذا ما تأملنا في عالم الإنسان سنجد أن جسم الإنسان يتكون في الأساس من أكثر من 4 تريليون خلية مجتمعة مع بعضها البعض، لتكوين الأنسجة، وكل الأنسجة تتجمَّع مع بعضها البعض لتكوين الأعضاء، والأعضاء تتجمَّع لتكوين الأجهزة، وما جسم الإنسان إلا مجموعة من الأجهزة !!.
وتنتج قوة القلب عندما تعمل خلايا القلب جميعا معا، لكن عندما تعمل كل خلية على حدة، تضعف قوة القلب، ويصاب الإنسان بالسكتة القلبية ويموت !!.
حتى في عالَم الجماد لا يرضى بالانعزال عن الجماعة أبدًا، فهل يمكن بناء جدار أو بُنيان بقالب واحد من الطوب أو بقالبين، لا يمكن ذلك، بل لا بد من مئات وألوُف القوالب الطوبية، فيُضاف بعضها لبعض في اجتماع وترابط وتناغم، هكذا كل العوالم (كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا).
وألا ترى الخيط الفريد الضعيف الذي لا يستطيع حَمْل الأشياء إذا انضمَّ إليه مثله أضحى حَبلًا مَتينًا يَجرُّ الأثقال ويحمل الأحمال !!.
تأبى الرماحُ إذا اجتمعنَ تكسُّرًا *** وإذا افترقن تَكسَّرت آحادَا
وهل هذه الجبال الشامخات الرواسي إنْ هي إلا جملة ذرات متحدة من الحصى والرمال !!.
كل هذه الملاحظات الإلهية الكونية تنادينا أنْ وحِّدوا صَفَكم واجمعوا شملكم وارئبوا صَدعكم؛ فإنَّ الاتحاد قوة والتفرق ضعف، وأن قوة الاتحاد ليست في شئون الناس فقط، بل هي قانون من قوانيين الله في الكون، لا تتبدل ولا تتغير، ومن ينصرف عنها يلقى خسرانا عظيما!!.
وصدق الله وصدقت آياته في خلقه، فها هي أمتنا العربية قد تفرقت وتشرزمت، حتى أصبحت في ذيل العالم، تنتظر الأوامر من كل كبير وصغير بعد أن كانت هي الآمرة والناهية !!
لكن أعدائنا بعدما اتَّحدت قوتهم وجُمعت كلمتهم واصطفت رايتهم؛ وصلوا إلى ما وصلوا إليه من القوة والسيطرة!!
إي وربي إنه لحق، فهل ظهرت قوة أمريكا إلا بعدما جعلت من نفسها ولايات متحدة !!.
وهل نهضت روسيا إلا باتحادها وقد كانت تسمى قديما الاتحاد السوفيتي !!.
وهل تفرعنت أوروبا كلها إلا بعدما اتحدت فيما يسمى بالاتحاد الأوروبي !!.
نسأل الله أن نتعلم الدرس جيدًا، وأن نُوحِّد صفَّنا، فهو ﴿عَلَىٰ جَمۡعِهِمۡ إِذَا یَشَاۤءُ قَدِیرࣱ﴾ [الشورى 29]