التدريج هو تنفيذ الشيء على مراحل، خطوة فخطوة، درجةً درجة.
وهو من الأساليب التي يقوم عليها علم التنمية البشرية وعلوم التربية والروابط الاجتماعية؛ لأنه ثبت - بالتجربة عبر الزمن - أنه إسلوب ناجح في كل أمور الحياة.
وهو من الأساليب التي استخدمها الشرع الشريف في بناء منهجه وإقامه حدوده ومعالمه.
فنراه قد اُستخدم في تحريم كثير من المنكرات، كالخمر مثالا على ذلك.
فلم يُحرِّم اللهُ الخمرَ من أول مرة بل استخدم التدريج في تحريمها، كما جاء في نصوص القرآن الكريم.
وانتهج القرآن الكريم أيضًا منهج التدرج في تحريم الربا، وفي فرضية كل من الصلاة والصيام والزكاة.
بل إن القرآن الكريم نفسه لم ينزل مرة واحدة بل نزل على مراحل متفرقة، قال تعالى: ﴿وَقُرۡءَانࣰا فَرَقۡنَـٰهُ لِتَقۡرَأَهُۥ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكۡثࣲ وَنَزَّلۡنَـٰهُ تَنزِیلࣰا﴾ [الإسراء ١٠٦]
﴿وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَوۡلَا نُزِّلَ عَلَیۡهِ ٱلۡقُرۡءَانُ جُمۡلَةࣰ وَ ٰحِدَةࣰۚ كَذَ ٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِۦ فُؤَادَكَۖ وَرَتَّلۡنَـٰهُ تَرۡتِیلࣰا﴾ [الفرقان ٣٢]
ولم يرد لفظ (التدرج) في القرآن الكريم صراحة، وإنما ورد لفظ قريبٌ منه، وهو لفظ (الاستدراج).
قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ) [الأعراف: ١٨٢]. أي: نأخذهم درجة فدرجة، وهو قريب من معنى التدرج، الذي هو اقترابٌ من الهدف شيئًا فشيئًا.
هذا، وإنَّ مَن يتفكر في هذا الكون الفسيح يرى أنه قد نشأ منذ بدايته على مراحل متعددة، وانتهج منهج التدرج في تهيئته وتمهيده، حتى أصبح صالحًا للحياة واستقبال الكائنات الحية عليه.
ودليلي في هذا هو كلام الخالق العظيم في كتابه القديم ووحيه القرآني الكريم.
♦️ حيث أخبرنا الله وأطلعنا أن هذه السماوات والأرض خُلقت في ستة أيام، قال تعالى: ﴿وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَیۡنَهُمَا فِی سِتَّةِ أَیَّامࣲ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبࣲ﴾ [ق ٣٨]
ثم فصَّل وشرح الأيام الستة وما حدث فيها، فقال تعالى:
﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم﴾ [فصلت: ٩-١٢].
ومعلوم أنَّ الله سبحانه وتعالى قادر على خلق السموات والأرض في لحظة، ﴿إِنَّمَاۤ أَمۡرُهُۥۤ إِذَاۤ أَرَادَ شَیۡـًٔا أَن یَقُولَ لَهُۥ كُن فَیَكُونُ﴾ [يس ٨٢]
ولكنه سبحانه خلقهن في ستة أيام؛ لحِكَم جليلة أرادها الله تعالى منها: تعليم عباده الأناة والتدرج في إيجاد الأشياء شيئًا فشيئًا.
قال الإمام ابن عاشور في التحرير والتنوير (8/ 161): «وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون خلق السماوات والأرض مدرجًا، وأن لا يكون دفعة؛ لأنه جعل العوالم متولدًا بعضها من بعض؛ لتكون أتقن صنعًا مما لو خلقت دفعة؛ وليكون هذا الخلق مظهرًا لصفتي علم الله تعالى وقدرته، فالقدرة صالحة لخلقها دفعة، لكن العلم والحكمة اقتضيا هذا التدرج، وكانت تلك المدة أقل زمن يحصل فيه المراد من التولد بعظيم القدرة؛ ولعل تكرر ذكر هذه الأيام في آيات كثيرة لقصد التنبيه إلى هذه النكتة البديعة من كونها مظهر سعة العلم، وسعة القدرة» انتهى كلامه.
♦️ كذلك تجلى مبدئ التدرج في خلق الإنسان، حيث خلقه الله في أطوار مختلفة، وهو قادر سبحانه أن يخلقه دفعة واحدة، فخلقه نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم خلق المضغة عظامًا، فكسا العظام لحمًا.
قال تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: ١٤].
وانظر كذلك للقمر وهو يبدو صغيرًا، ثم يكبر رويدًا حتى يكمل، ثم يعود إلى النقص، وهو يشبه الإنسان؛ حيث إنه يخلق من ضعف، ثم لا يزال يترقى من قوة إلى قوة، حتى يعود إلى الضعف مرة أخرى، فتبارك الله أحسن الخالقين، قال تعالى: [وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ] [يس: ٣٩].
وتحيا كل الكائنات الحية - نباتات وحيوانات - في دورة مُدرَّجة من الحياة تولد وتنمو وتكبر حتى تموت.
إنها صفة التدرج التي باتت سنة من الله الكونية التي لا تتبدل ولا تتخلف ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبۡدِیلࣰاۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحۡوِیلًا﴾ [فاطر ٤٣]
وواجب الإنسان حيال هذه السنة الكونية أن يتخذها مسارًا في حياته كلها، فلا يتعجل في قطف ثمار عمله، بل يتدرج في الطريق للوصول للغاية؛ فمن استعجل الشيء قبل آوانه عوقب بحرمانه.!
إنها رسالة من الكون ودعوة للتخلق (بالتدريج) في طلب العلم .... التدريج في اكتساب المال وطلب المجد .... التدريج في توطيد العلاقات الإنسانية .... التدريج في القضاء على الخصومات..... التدريج في التخلص من العادات السيئة ... التدريج في الانتصار على النفس .... التدريج في الوصول إلى الله واتباع منهجه.
إنها رسالة من الكون لكل الشباب ألا تيأس، أنت تستطيع فعل المعجزات، أنت تمتلك قدرة على الإبداع والتميز والتألق، ولكن لا تتعجل، خذ الطريق خطوة خطوة ودرجة درجة، وكن على يقين أنك ستصل.
لاَ تَقـلْ قَـدْ ذَهَبـتْ أربـابُهُ * * * كُلُّ مِـنْ سارَ عَلى الـدَّربِ وَصْـلْ