أما عن المحطة الثالثة في هذا الطريق الذي سَلكتهُ للتَّعرف على هذا الإمام الجليل، فكانت مرحلة (القراءة والبحث والتفتيش) فيما تركه الإمام من رصيد علمي زاخر بالمؤلفات والتحقيقات والتسجيلات، فنهضتُ إلى المكتبات ومواقع الكتب لأرى بنفسي واستطلع ما تركه هذا الشيخ؛ ليكون اقتناعي به اقتناع مَنْ بَحثَ وقرأ ورأى لا اقتناع عقلٍ مُقلِّد مشلول.
وفي هذه رسالة أبعثها إلى كل الشباب؛ أنْ لا تنخدع بكل ما تسمعه من كلمات رقراقة وثناءات جميلة لأشخاص مجهولين لا تعرف عنهم شيئا غير ثوب الزَيْف الذي يرتديه، بل انهض بنفسك وانزل ميدان الواقع واستكشف زواياه، واستعن بالله في إخلاص أكيد ترجو به الوصول للحق والحقيقة.
فإنَّ أكثر البلايا التي وقع فيها شبابنا اليوم كانت بسبب الانسياق وراء كُلِّ مَنْ ليس أهلا للاتِّباع، والافتتان بكل خادعٍ ماكرٍ مُدلِّسٍ يرتدي زي أهل العلم والفكر والمعرفة، وهو عنها غَريب ولثوبها عُريان !!
من أجل ذلك، قررت أنْ لا أُصدِّقُ أحدًا لمظهره ولا أُقدِّسُ أحدًا لفصاحته وسحر بيانه، بل المعيار عندي هو منهجههُ وأدواته الفكرية، وما يرمي إليه، وما يدعو له، وما يترتب على ذلك في الحال والاستقبال، هل هو نافع أم مضيعة للعمر والأجر.
فنزلتُ إلى ساحة الإمام عبد الحليم محمود وقرأتُ ما كتبهُ وما كُتبَ عنه من مَدح وذم، ثم وازنتُ بين حُجة هؤلاء وحجة هؤلاء، حتى تأكد لي أنه إمام كبير وولي صالح، يدعو إلى التصالح مع الله وينادي بالسلامة مع النفس والكون، يدعو إلى إخلاص المسيرة وصدق السريرة.
لا يدعو إلى ما يدعوا إليه متحدثي العصر من تَـتـَبُّـع العورات، والتعصب للتفاهات، ونَبـش الخلافات، ونشر الفُرقة بين الأفراد والجماعات.
بل كان الإمام عبد الحليم محمود رجل علم بحق، مهمومًا بقضايا الأمة الكبرى لا التفاهات الصغرى، حاملًا على عاتقه رسالة الإسلام الوسطية المستنيرة.
كان مِن أصدق الذين اهتموا بالجانب الروحي والأخلاقي، اقتداءً وتحقيقًا وتأليفًا ودعوة، بالحكمة والموعظة الحسنة، بلا تزييف ولا تحريف.
وإنني لأُنادي كل الشباب الحائر، الشباب التائه في خـضم هذا العصر المادي المكروب، الذي لم تَعُد للحياة الروحية فيه أدنى وجود، أناديهم أن يقرءوا في تراث الإمام عبد الحليم محمود، وما كَـتبهُ عن أعلام وأقطاب الحضارة الإسلامية من الأولياء الصالحين وأهل المعرفة الصادقين.
وما كتبهُ عن الرسول وسنته، والإسلام والعقل، والجهاد وحقيقته، وما كتبه عن منهج الإصلاح الإسلامي في المجتمع، وتربية الناشئ المسلم، وما كتبهُ عن قضية التصوف وبيان حقيقته التي شُوهت عمدا.
وما كتبه في الرد على الشيوعية والملحدين والمشككين في تراث الإسلام وثوابت الدين.
فما أحوجنا إلى هذا التراث، لا سيما في هذه الأيام الراهنة التي تطاول فيها الاقذام على السادة الأعلام، ونال فيها الظالمون الغاشمون من مقام سيد المرسلين ﷺ.
فهذه كانت المرحلة الثالثة في طريق التعرف على الإمام عبد الحليم محمود، ليعقب ذلك محطات أخرى سوف أتكلم عنها في المقالات التالية إن شاء الله.