إن من أسماء الله الحسنى التي نتعبد بها اسم الله «البديع أو المبدع»، قال تعالى: «بديع السماوات والأرض»، ومعناه: الذي يأتي بالشيء على غير مثال سابق. وواجب الأمة الإسلامية حَيالَ أسماء الله الحسني، أن يكون لها منها نصيب، وكما جاء في الأثر: «تخلَّقوا بأخلاق الله»، فنتخلق باسمه الرحيم بأن نتراحم فيما سوانا، ونتخلق باسمه العليم أن نطلب العلم ونتعلم، ونتخلق باسمه العفو الغفور أن نصفح عن ذلَّات الآخرين، ونتخلق باسمه السلام أن ننشر السلام والآمان بين ربوع الأرض ولا نهدد آمن الناس،....وهكذا.
كذلك واجبنا أن نتخلق باسمه «البديع» في أن نُعمل عقولنا ونكون مُبدعين ومبتكرين ومخترعين.
فإلابداع مطلب إسلامي شكلاً ومضموناً، وهو خُلق من أخلاق الله البديع سبحانه التي يجب أن نتحلى بها ونرتشف من مَعِيِّها ونسيمها.
وإذا نظرنا لجوهر الدين الإسلامي، نجده يدعوا إلى الإبداع، ذاك الإبداع الذي يخدم البشرية وينفع الناس، لا إبداع واختراع ما يُعكر عليهم صفو الليالي والأيام.
فها هو سيدنا النبي ﷺ يُرغب في الإبداع، ويفتح باب الابتكار أمام الجميع على مصراعية، فيقول ﷺ: «من سنَّ في الإسلامِ سنَّةً حسنةً فله أجرُها وأجرُ من عملَ بها بعدَهُ من غيرِ أن ينقصَ من أجورهم شيء».
وهذا الحديث هو حثٌّ صريح وتشجيع على الإبداع في الأفعال الحسنة، والأفكار الجادة، والأعمال الهادفة، والخدمات المفيدة، التي من الممكن أن تقدَّم للإنسان، وتزيد من لبنات البناء الحضاري، القائم على التبصر والإيمان.
ولا حدود لهذا الإبداع إلا أن يكون في حدود الإسلام، ولا زمن يقف حدًّا أمامه إلا الموت، فباب الأعمال الحسنة والإبداع فيها مفتوح على مصراعيه إلى يوم القيامة.
وقد قيَّد النبي ﷺ الإبداع المشروع والمطلوب بالحسن الذي ينفع الناس ويأخذ بأيديهم لبر الأمن والسعادة، وليس الدمار والخراب.
والناظر لكتاب الله جلَّ ثناءه، يجد في مواضع كثير ما يدعوا إلى التفكير وإعمال العقل وإمعان الفكر، فكلمة «يعقلون» قد وردت في القرآن 22 مرة، وكلمة «تعقلون» ورد ذكرها 24 مرة، وكلمة «الألباب» جمع لُبّ وهو العقل، ورد ذكرها 16 مرة، وكلمة «الأبصار»، ورد ذكرها 9 مرات، وكلمة «يتفكرون» وردت 10 مرات، وكلمة «تتفكرون» وردت ثلات مرات... وهذه دعوة صريحة للإبداع وتشغيل العقول في التصور والخيال والابتكار.
وأيضاً من معالم الإبداع في الإسلام «الاجتهاد»!!. ولا شك أنَّ مبدأ الاجتهاد في الإسلام من المبادئ التي فتحت الباب أمام العقل ليصول ويجول في مجال استنباط الأحكام الشرعية، وهو الآلية التي أقرَّها الإسلام للتجديد المتواصل في الحياة الإسلامية.
وإذا كان الإسلامُ قد أجاز للعقل هذا الحق في مجال الأحكام الشرعية، فمن باب أولى أن يكون ذلك أمراً حتمياً في مجال الأمور الدنيوية، والنبي عليه الصلاة والسلام هو نفسه القائل: «أنتم أعلمُ بأمر دنياكم»، والاجتهاد في حقيقته دعوة إلى الإبداع في كل مجالات العلوم والفنون والصنائع، ومن هنا وصفه المفكر الإسلاميُّ الراحل محمد إقبال، بأنه مبدأ الحركة في الإسلام.
ولقد تميز علماء الإسلام بالإبداع عبر العصور، وكم حققوا اكتشافات علمية نافعة للبشرية، في الطب والفلك والبصريات والكيمياء والطيران والفيزياء والرياضيات والجغرافيا، وغير ذلك كثير مما لا يخفى، حتى عدوا للعلماء المسلمين ألف اختراع واختراع، فضلاً عن إبداعهم العظيم في علوم الشرع المختلفة والأدب والسلوك والتاريخ التي نفعت الأمة، وأذكت فيها نور العلوم ولذة التعلم، فكانت هذه الاكتشافات مصادر إلهام لتطوير هذه المعارف، حتى غدت اليوم، مع غيرها الكثير، علوماً ضرورية لنفع البشرية، كل ذلك أداءً للواجب، وسعياً لنفع البشر، مع أن الزمن لم يكن مساعداً لهم بتقنيات حديثة، بل كان بمجهودات خاصة ومغالبات للمشاق، فكانوا معذورين بعدم تطوير تلك الاكتشافات مع ما كان لها من نفع كبير في وقتهم.
أما اليوم فإن المساعدات المادية، من تيَسُّر العلوم وتوفر الآلات ووجود الدعم المادي، تحتم على كل ذي بصيرة أن يسعى جاهداً للمزيد من الابتكار والإبداع، لاسيما مع الدعم غير المتناهي من الحكومة التي جعلت الإبداع إحدى ركائز تطورها.
وأختتم مقالي بالتنويه عن كتاب لعباس العقاد اسمه «التفكير فريضة إسلامية»، ذكر العقاد فيه الأدلة الكافية من القرآن والسنة التي تدعوا إلى إعمال العقل في النظر والفكرة، وكان من لطائف ما أشار إليه في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ}، من أنَّ الله قد جعل عدم إعمال العقل ذنب من الذنوب!!.
وسيدنا موسى عليه السلام يستعيذ بالله من الجهل الذي هو ضد الإبداع، قال تعالى: ( قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ۖ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ). وأول آية نزلت من القرآن كانت تدعوا للقراءة التي هي المنطلق للإبداع.
حقا ديننا هو دين الإبداع، وينبغى علينا نحن المسلمين أن ننطلق من هذا التوجية الإلهي وأن نكون مبدعين، أتمنى ذلك والله ولي التوفيق.