حين كنت صغيرة لا أدرك أن السنوات تمر بسرعة، لم أكن ألتفت لتفاصيل الأمور وما ورائها كأي طفلة في مثل سني، لم أستوعب حينها أنه في لحظات قريبة ستغادرنا تلك السيدة المسنة ذات الوجه البشوش التي تسير بتثاقل وتنام مستندة على الكثير من الوسائد بحثًا عن الراحة.
رغم بساطة جدتي التي تشبه جيلها، إلا أنها زرعت داخلي زهورًا مازالت تحمل عبيرًا بذكريات جدتي إلى الآن، لم تكن تقصد حينها أن تفعل، بل كانت هدية الرحمن لها لتكون صدقة جارية لم تكلفها شيئًا ولم تطلبها من أحد، فقط كما أخبرتني يومًا أن... الله يحبها.
فها أنا كلما أصابني الأرق وأحاط بي التعب فأحاول جاهدة الهرب من أفكار الليل البائسة، تومض داخلي طَرقات سبحة جدتي ليلًا عندما كانت تأتي لزيارتنا لعدة أيام فأنام على صوت تسبيحاتها، تلك الموسيقى التي تصدح بها حبات الخرز في المسبحة التي لا تفارق وسادتها، أتابعها كلما أصابها القلق، فأعرف أنها استعانت بالله وكان خير مُعين على وسواس الليل.
وبعد سنوات أصبحت أتذكرها مع كل تسبيحة فأتأكد أنها كانت على صواب عندما أخبرتني أن... الله يحبها.
كانت تستيقظ يوميًا فور آذان الفجر، ومع نداء المؤذن للصلاة (الصلاة خير من النوم) تتحرك بنشاط حتى في أشد أيام الشتاء القارص، فأسألها ببراءة كيف تستيقظين كل يوم بمجرد سماع الأذان؟! لتضحك ضحكتها المعهودة وتخبرني قائلة (أصل أنا ربنا بيحبني) فترتبط بداخلي هذه العبارة بصلاة الفجر، ويصبح يقيني من يقين جدتي بعدما أقنعتني بالفعل وببساطة أن من يستيقظ لصلاة الفجر يحبه الله كما أحبها، وينتابني الحزن والتفكير في حالي كلما غلبني النوم وأضعت صلاة الفجر حاضر، لأنني أشعر حينها أن الله غير راض عني.
فاللهم أحبني كما أحببت جدتي وأجعل من ذريتي من يتذكرني في أوقات قربك.