جميلة هي في الصباح عندما يراها فيبدأ يومه ببهجة ونشاط، عشقه لها يفوق الحدود؛ فبمجرد أن يمر عبيرها يتبدل حاله ويصفى ذهنه إلا منها.
يستيقظ بشوق يجدد لقاءهما، اعتاد أن يجلس معها قبل ذهابه للعمل، يبادلها أطراف الحديث في الشرفة المتواضعة التي زرع بها نبات النعناع ذو الرائحة النفاذة طوال العام، ولا مانع من أن يستعين به مع كوب من الشاي فيضيف له مذاق مختلف.
الآن اقترب الوداع مع وعد بلقاء بعد يوم عمل شاق، يبتسم وهو يبتعد عنها بهدوء، ولكنه يترك قلبه معها أمانة لحين اللقاء.
بمجرد أن غادر المنزل تبدل حاله وتذكر عمله الممل، حاول أن يحب ما يعمل ولكنه أبدًا لم يجد ما يحب خارج جدران منزله المتواضع، فكان دائم الشوق والشغف للعودة لهذا الحضن الدافئ وهذه السكينة الروحية التي تنتابه بين جدرانه.
موظف كآلاف الموظفين في أعمال روتينية فرضتها عليهم لقمة العيش، يقف أمامه كل يوم عشرات المواطنين بأوراق جميعها ضروري وقليلها مستعجل، منهم الفظ، منهم البارد، ومؤكد منهم المهذب الذي يقدّر مشقة شخص يجلس يوميًا على نفس المكتب بين أكوام من الملفات والأوراق، يتهمونه بالغلظة وتعقيد الإجراءات ومصالح الأفراد! رغم أنه مثلهم تمامًا يغرق في البيروقراطية وتخنقه كثرة الإجراءات والتوقيعات، يشفق كثيراً على البعض، ولكن ما باليد حيلة، فماذا له أن يفعل وهو تحت رحمة تعسف القوانين وتعقيداتها؟! ألم يضع أحدهم نفسه مكانه وكل هذا العمل على عاتقه، وهناك عجز في الموظفين وخزانة الدولة ترفض التعيين، والموجود منهم معظمه ليس بجدير؛ فهناك من اقترب موعد ولادتها وتغيرت هرموناتها وعلى الجميع مراعاة ظروفها، وآخر ضاق به الحال يحمل هم زواج البنات، جلس يضع الهم على الهم ليخرج جم غضبه على زميل يطلب أوراقاً، أو مواطناً يحتاج إمضاء.
وها هو مرتش يتصور أنه بمهارة يخفي الأموال عن أعين زملائه الذين يتجاهلون فعله! رغم أن عين الله تراه، ولكنه كغيره يجد المبرر لما يفعل فضيق الحال وضعف الراتب أعطى له الأسباب، فكانت نفسه الأمارة أشد عليه من اللوامة.
كل يوم على هذا الحال، التعاسة على وجوه زملائه تمنعه من التفاؤل والأمل في غد مختلف.
تتبدل نظراته بين شفقة وسخرية، وابتسامة رضا ترتسم على محياه كلما رأى من هو أسوأ حال؛ فيحمد الله الذي عفاه مما ابتلي به غيره.
انتهى يومه أخيراً، خرج من المبنى القاتم مسرعاً قبل أن يؤثر على رضا نفسه، اتجه لمنزله الهادئ باحثاً عن السكينة والراحة.
فتح الباب برفق وكأنه يخشى إيلامه، دخل بخطوات هادئة متجهاً إلى المطبخ حيث تمكث حبيبته وصديقة دربه تنتظره ككل يوم، صاحبة الوجه الواحد، فرؤية وجهها تفرض عليه الابتسام والرضا، واضحة هي ونقية بعيداً عن كل من بالخارج، مرت دقائق معدودة وأمسك بها مقرباً إياها منه ليستنشق رائحتها الزكية التي يتركها تداعب خلايا عقله فتعيد له رشده، وسريعاً ما اقتربت منها شفتاه ليرتشف من مذاقها الذي يزيل مرارة الأيام، فيكون أجمل فنجان قهوة فاق مذاقه حلاوة قرينتها الصباحية بعد معاناته اليومية، فحمل فنجانه المحبب برفق خوفاً على وجهها الساحر، واتجه لمكانه المفضل في الشرفة وجلس يرتشف قهوته المسائية لتؤنس وحدته التي اعتاد عليها بسبب العيش بمفرده، يخبرها أسراره ويشكو لها همومه كما أخبرها في الصباح.