أتى الليل بسدولهِ وها هي مريومة تُناجي ربّها بعد ما صَلّتْ بعض الركعات، وكذلكَ ميدو يفعل بغُرفته، بينما عادلٌ يبكي وفاطمة تُهوّن عليهِ ما لاقى طِيلة اليوم.
فرغتْ مريومة من مُناجاتها، وأخرجتْ صندوقًا عتيقًا من حزينةِ ملابسها، فتحتهُ وأخذتْ منهُ ورقتان، إحداهُما باسمِها والأُخرى باسمِ رحمة.
قرأتهما ففاضتْ عيناها البُنيّتين؛ إذ كانتْ هي ورحمة قد كتبتا ما سيفعلانهِ في العامِ الدراسي القادم، بعد أنْ تنتهي إجازة آخر العام الحالية، وما يهدفانِ إليهِ في عامهما التاسع والمُتبقي عليهِ ستة أشهُر.
اِستلقتْ على سريرها تبكي حتّى نامتْ وهي تحتضن الورقتان.
مضتْ الليلة كَأصعبِ ليلةٍ مرّتْ على بيتِ محمود وعادل على الإطلاق.
تناولوا الإفطار جميعًا ببيتِ عادل، ثُمَّ ذهبوا إلى مُستشفى الأورام؛ حيثُ تُقيم رحمة، دلفوا لزيارتها في الإستقبال، فَرِحَتْ لرؤيتهم، وأخبرتهم أنَّ طبيب الأورام قد قامَ بعملِ فحوصاتٍ لها، ليعلمَ أيُّ نوعٍ من سرطانِ الدّمِ أصابها.
تمالكوا أعصابهم وحَفِظوا دموعهم بمآقيهم، مُظهرينَ لها الإبتسام، ودواخلهم تتقطع، بينما هي تُضاحكهم كي لا يُلاحظوا ألمها.
سألتْ مريومة عن مِنّة، فأخبرتها أنَّها قد زارتهم هي وأُمّها وأخيها وليد؛ ليطمنوا عليها بعد ما عَلِموا بالخبر.
سُرَّتْ رحمة لمقالةِ مريومة، ثُمَّ سألتها عن العمّة نجلاء وزوجها العمّ سعيد، فأخبرتها بأنَّهما يدعوانِ اللَّهَ ليلَ نهارٍ ليشفيها، ويصرف عنها ما هي فيه.
طلبتْ رحمة من مريومة أنْ تأتيها بدفترٍ وقلمٍ في الزيارةِ القادمة؛ لتُدّونَ أيَّام إقامتها بالمُستشفى، وكذا لحظات علاجها، وما تشعُر بهِ يوميًا، وما يعتريها من مخاوف.
أكدتْ لها مريومة أنَّها ستفعل، وبعدَ لحظاتٍ شَعرتْ رحمة بالتعب، فنادتْ المُمرضة لتأخذها لمحلّ إقامتها، بعد ما ودّعتهم جميعًا.
ذهبَ محمود وعادل لطبيبِ الأورام؛ ليسألاهُ عن نتيجةِ الفحوصات الأخيرة التي أجراها لرحمة، أجلسهما بمكتبهِ حتّى ظهرتْ النتيجة.
أمسكَ بالمظروف، فتحهُ وقرأ ما بداخلهِ فتغيّرَ وجهه، نَظَرَ لهما قائلًا: قدّرَ اللَّهُ وما شاء فعل، قد أُصيبَتْ رحمة بمرضِ اللوكيميا.
ولأنَّ عادل على عِلمٍ بهذا المرض أخذَ يبكي حتّى أبكى أخيهِ والطبيب، ثُمَّ تساءلَ إنْ كانَ هُناكَ علاج لوكيميا أم لم يكتشفوهُ بعد، أجابهُ الطبيب بأنَّ لهذا المرضِ علاجٌ رغم خطورتهِ البالغة.
كَفكَفَ محمود دمعهُ وسألَ الطبيب التوضيح، وضّحَ لهُ الطبيب أنَّ العلاج سيكون على عِدّة مراحل، أهمّها زرع نخاع العظام، لذا يُريدُ مُتبرعًا.
نَظَرَ عادل إلى محمود ومحمود إلى عادل، وطلبَ كلاهما من الطبيبِ أنْ يكونَ هو المُتبرع، ربتَ الطبيب على كتفيهما، ووضّحَ لهما أنَّ نتيجة الفحوصات هي مَن سَتُحدّد.
عادوا إلى بيتِ محمود بوجوهٍ مُكْفَهِرّة والحُزنُ يملأ دواخلهم، اِستأذنَ عادل في الذهابِ لبيته؛ كي يرتاحَ بعض الوقت، ومن ثَمَّ يذهبَ هو ومحمود إلى المُستشفى لإجراءِ الفحوصاتِ اللازمة، أَذِنَ لهُ أخيهِ فذهبَ هو وفاطمة ومريومة، بينما ميدو قد جلسَ مع فارس يتحدّثان.
دلفتْ مريومة غُرفتها، أخذتْ بعض دفاترها ووضعتهُ بحقيبةٍ صغيرة جميلة للغاية، ومعهُ بعض أقلام الحِبر والرَصاص، ثُمَّ جاءتها فِكرة رائعة، فحدّثتْ بِها أُمّها، أُعجِبَتْ فاطمة بالفِكرة، وأَذِنَتْ لها بالذهابِ للعمّة نجلاء.
أجلستها نجلاء بحديقةِ البيت، ثُمَّ جاءتها بالفراولةِ التي تُحِبُّها، وأنصتتْ لفِكرتها التي أعجبتها، ووعدتها بأنَّها سَتُخبرُ زوجها سعيد بِها، سألتها عن رحمة، أخبرتها مريومة بما حَدَث، ذرفتْ نجلاء جمر قلبها مع دمعها، وطلبتْ من مريومة أنْ تُخبرها بموعدِ الزيارة القادمة؛ كي تذهبَ معهم لرؤيةِ رحمة.
اِستيقظَ عادل على صوتِ أذانِ المغرب، أدّى صلاتهُ وذهبَ بصُحبةِ محمود إلى المُستشفى، قاما بإجراءِ الفحوصاتِ وأخبرهما الطبيب أنَّ النتيجةَ ستظهر غدًا، غادرا المُستشفى داعينَ اللَّهَ أنْ يشفي رحمة، ويجعلَ علاجها في نخاعِ عظم أحدهما.
جلستْ نجلاء مع سعيد يحتسيانِ الشاي، وأخبرتهُ بفِكرةِ مريومة، فما كانَ منهُ إلَّا أنْ رَحَّبَ بِها، وطلبَ من نجلاء أنْ تُخبرها أنَّ المِطبعة مِلكُ أمرها من الغد، سُرَّتْ نجلاء وأسرعتْ لمُهاتفةِ مريومة.
كانتْ مريومة لا تزال ساهرة في إنتظارِ مُهاتفة العمّة نجلاء، رنَّ الهاتف، أسرعتْ مريومة بالردّ، أخبرتها نجلاء بمقالةِ زوجها، سَعِدَتْ وراحتْ لتُفرِحَ فاطمة قبلَ أنْ تنام.
لم يَنَم محمود ليلاهُ قَلِقانًا حيران، مشغول البال بنتيجةِ الفحوصات، مُتسائلًا: ماذا لو كانتْ سلبية؟
ظَلَّ يُناجي رَبّهُ أنْ يرحمَ طفلتهُ الضعيفة من وحشيةِ هذا المرض الفتّاك، حتّى سَمِعَ أذان الفجر، فذهبَ إلى المسجدِ ليُلّبي النداء.
أشرقتْ الشَّمسُ بإذنِ رَبِّها، تناولَ الجميع الإفطار ببيتِ عادل قبلَ أنْ يذهبوا إلى المُستشفى، بَلّغَتْ مريومة العمّة نجلاء بأنَّهم ذاهبونَ لزيارةِ رحمة، فأتتْ بعدَ دقائقَ لتَصحبهم إلى زيارتها.
دلفَ الجميع قسم الزيارة، ليتلقوا برحمة حبيبةُ قلوبهم، عدا عادل ومحمود؛ فقد ذهبا لقسمِ الفحوصات لمعرفةِ النتيجة.
هَشَّتْ لهم رحمة وبَشَّتْ، احتضنتها العمّة نجلاء، وأخذتْ تهوّن عليها حتّى تساقطتْ عَبراتها على وجنتيها، مسحتْ رحمة دمعها، وتبسمتْ لها قبلَ أنْ تُضيف: أُمّي نجلاء، وهُنا اِندهشتْ نجلاء من سماعها لفظةَ أُمّي؛ إذ لم تعهدها أُذناها من قبل، تابعتْ رحمة: أنتِ أُمّي الثانية وصاحبتي، وحبيبةُ قلبي عمّة نجلاء، لذا لا تذرفي دمعكِ عليَّ، بل كوني مُتفائلة خيرًا، سيأذنَ اللَّهُ لي بالشفاءِ والراحة، لنُكمِلَ ما بدأناهُ أنا وحضرتكِ ومريومة.
ربتتْ مريومة على يدها بحنانٍ وأردفتْ: بإذن اللَّه أُختي الحبيبة، ثُمَّ أعطتها حقيبة جميلة بِها ما طلبتهُ من دفترٍ وأقلام، أخذتها وشكرتْ مريومة بعدما تعانقتا.
أخبرهما الطبيب أنَّ نتيجة الفحوصات سلبية، سادَ الصمت وتساقطتْ العَبرات، طلبَ منهما الطبيب أنْ يُخبروا أحد معارفهم عَلّهُ يُطابق ما يحتاجونه، شريطةَ ألَّا يزيدَ عُمرهُ عن تسعةٍ وأربعونَ عامًا.
فَرِحَتْ رحمة برؤيةِ عادل ومحمود، حتّى أنَّها حاولتْ النهوض من مِقعدها المُتحرّك لكنَّها ما استطاعتْ، أسرعا إليها وقاما باحتضانها، وكلاهما يقول: هي ابنتي، هي بضعتي، عَلَتْ ضحكات رحمة، وأخذتْ تُلقي عليهم بعض النِكات.
أخبرها محمود قبلَ أنْ يذهبوا أنَّ نتيجة الفحوصات ظهرتْ سلبية، لكنَّ عادلَ طمأنها بأنَّهُما سيبحثانِ لها عن مُتبرع، حبستْ دمعها بِمُقلتيها وتبسمتْ لهما، ودّعوها ثُمَّ غادروا.
أخبرتْ نجلاء سعيد بما حَدَثَ فتركها وذهبَ لبيتِ محمود، أخبرهُ فارس أنَّ أباهُ ببيتِ عمّه، خَطَى بعض الأمتار ليَرى عادل قد جلسَ مع محمود على الأريكة التي تتقدّم البيت.
ألقى السلام وجلسَ معهما، ثُمَّ أخبرهما بأنَّهُ المُتبرع، فهو لم يُكمِل الخامسة وأربعون بعد،
نَظَرَا لبعضيهما ليقولَ محمود: سَلِمَتَ وغنمتَ أخي سعيد، لكنْ......
قاطعهُ سعيد بصوتٍ مذبوح: رحمة ليستْ ابنتكما وحدكما، بل هي ابنتي التي لم يحملها ظهري وبكى.
ربتَ عادل على كتفهِ ومسحَ دمعهُ وأردف: هي ذاكَ سعيد، هي ذاك، ولكَ ما تُريد، لن يمنعكَ أحدُنا.
تهللتْ أسارير سعيد، وذهبَ معهما إلى المُستشفى لإجراءِ الفحوصات.