دقائقَ معدوداتٍ وخرجتْ مريومة من غُرفتها بعد ما اِرتدتْ عباءتها الخاصّة بالخروج، ذات اللون الكُحلي، ووشاحها الأبيض، وبندانتها الحمراء.
حَمَلَ عادل وميدو الوجبات، بينما مريومة فتحتْ لهما باب السيارة، ليضعا بها حِملهما.
وبعدَ ربع ساعة وصلوا إلى المكان المُراد، أوقفَ عادل السيارة، وخرجوا ليُخرِجوا الوجبات من صندوقِ السيارة.
قَسَّموا الوجبات على ثلاثتهم، أخذَ عادل يُعطي عُمّال النظافة ممّا أعطاهُ الكريم برفقٍ ولين، وبسمة صافية ونفسٍ راضية، وكذلكَ ميدو الذي يُقلّدهُ في حركاتهِ وسكناته، بينما مريومة واقفةٌ مكانها لم تُحرّك ساكنًا!
هَمَسَ لها أباها ألَّا تخجلي بُنيّتي، فأنتِ الآن في موضعٍ يُحِبُّهُ اللَّهُ ورسولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، كما أنَّ هؤلاءِ العُمّال المعطائين قد يظنّونَ أنَّكِ تزدريهم فيحزنوا، أخذَ يُشّجعها حتّى أعطتهم الوجبات التي كانتْ معها.
اِنتهوا من توزيعِ الوجبات، وقبلَ أنْ يقودَ عادل سيارتهُ أشارَ إليهِ شيخٌ كبير، أسرعَ إليهِ ليُعطيهِ كيسًا صغيرًا، أخذهُ عادل بأسريرٍ مُتهللة وكأنَّهُ حازَ مِفتاح كنز الكنوز.
عادوا إلى البيتِ فرحينَ بما آتاهم اللَّهُ من فضله، وما خَصّهم بهِ من إيصالِ بعض رزقهِ لبعض عِباده.
سألتْ مريم أباها عن الكيس الذي أخذهُ من الشيخ الكبير، أجابها بأنَّ هؤلاءِ النَّاس عزيزي النفس، لا يقبلونَ المهانةَ ولو كانتْ تلميحًا، يُعطونني بعضًا ممّا لديهم ويكأنَّنا نتبادل العطاء، فهذا الكيس الذي ترينهُ وترونهُ جميعًا، بهِ مسبحةٌ عتيقة أعطانيها الشيخ الكبير كَنوعٍ من التقدير، وهي عندي أثمنُ من كنوزِ الأرض؛ لأنَّها تُعَدّ إرثهُ التليد والذي لا يملك غيره، ورغم ذلكَ أعطانيها ببسمةٍ عذبة، ونفسٍ فَرِحَة.
تبسمتْ مريومة لمقالةِ أبيها ثُمَّ اِستأذنتهُ في الإنصرافِ إلى غُرفتها.
بدّلتْ ملابسها واِرتدتْ ثوبًا أنيقًا، ثُمَّ خرجتْ لتأخذَ من أُمّها صحن الكعك، وتذهبَ بهِ إلى جارتها العِمّة نجلاء وزوجها العمّ سعيد.
طرقتْ الباب فإذ بنجلاء تفتح لها ويكأنَّها تنتظرها خلفه، ألقتْ عليها السلام، ردَّتْ عليها نجلاء، ثُمَّ قَبَّلتها واحتضنتها، ودلفا غُرفة الضيافة.
أعطتها مريومة صحن الكعك مصحوبًا ببسمةٍ حانية، أخذتهُ نجلاء واِستأذنتها، لحظاتٍ وأتتْ بعصيرِ الكرز الطازج، ومعهُ بعض المُكسرات، بالإضافةِ لصحنِ الأرز باللبن المُحلَّى بقيء الزنابير.
تناولتْ مريومة ما أعدَّتهُ لها نجلاء بسرورٍ، وشكرتها على حُسنِ صنيعها، ثُمَّ سألتها: عمّة ألم تُنجبي من قبل؟
اِغرورقتْ عيناها بالدموعِ لكنَّها أخفتْ دمعها بمُقلتاها، وأجابتها: لم يُقدّرُ اللَّهُ لي أنْ أُنجِبَ ابنتي، لكنَّهُ قد رزقني الكثير من النِعَم، فإنْ كانَ قد حرمني الإنجاب، فقد عوّضني بحُبّكم لي مريومتي الجميلة أنتِ وميدو، ورحمة وفارس.
اِقتربتْ منها مريومة، وربتتْ على كتفها بحنانٍ بالغٍ، ثُمَّ أضافتْ: نَحنُ نُحِبُّكِ عمّة نجلاء الحبيبة، ولا أُريدُكِ أنْ تحزني، لنَكُن نَحنُ أولادكِ الذينَ لم تُنجبيهم.
تبسمتْ لها نجلاء بعد ما ذرفتْ عَبراتها: صحيحٌ أنَّني لم أحملكم ببطني، لكنَّني ويَعلمُ اللَّهُ قد حملتكم بقلبي ابنتي الحبيبة.
عانقتها مريومة لبضع دقائق، ثُمَّ مسحتْ لها عَبراتها، وأخذتْ تسرد لها بعض النكات حتّى ضَحِكَتْ.
أتعلمينَ عمّة نجلاء أنَّني أُحِبُّكِ كثيرًا، وأرجو من اللَّهِ أنْ أكونَ مِثلك، فحضرتكِ نجلاءٌ واحدة، فريدةٌ بكُلِّ ما خُلِقَتِ به، ومُميّزةٌ بما جُبِلَتِ عليه، حنونة، رقيقة، جميلة، نبيلة، كريمة، طيّبةُ القلب ومُرهفة الحسّ.
نجلاء: قد أسالتِ عَبراتي ثانيةً مريومتي العزيزة، بل أنتِ المُميّزة والفريدة حبيبتي، سُبحانَ مَن زَرَعَ الحنانَ بقلبك!
وتعانقتا ثانيةً قبلَ أنْ تعود مريومة إلى بيتها.
صَلّتْ مريومة العِشاء بمِحرابِ الصلاة، ثُمَّ دلفتْ غُرفتها لتسطُر يومها في دفترٍ مُعنونٍ ب هكذا صنعتني الأيَّام.
سردتْ يوم الجُمعة، ووصفتهُ بأنَّهُ أجملُ يومٍ مُذ خُلِقَتْ، ثُمَّ ذكرتْ زيارتها للعمّة نجلاء، وهُنا بدأت تتحدّث عنها كَشخصيةٍ مُعطاءة، تنفي مقولة "فاقد الشيء لا يُعطيه"، فها هي قد فقدتْ الإنجاب لكنَّها لم تفقد شعور الأُمومة؛ فداخلها فيضان حنان لا ينضب، تُعطي هذا، وتُهدي ذاك، وتتصدق، وتُعينُ ذا الحاجة هي وزوجها العمّ سعيد، الذي أحبَّها مُنذُ الصِغرِ وأحبَّته، ثُمَّ تزوجا بعد ما أنهيا تعليمهما الجامعي، مرّتْ الأيَّام وأثبتتْ الفُحوصاتِ الطبية أنَّهما لن يُنجبا، حَمِدا اللَّه ورَضِيا بما قدّر لهما.
الغريب في الأمرِ أنَّ العمّ سعيد كانَ يبكي بحُرقة، فقد كانَ يتمنّى أنْ يكونَ هو الذي لا يُنجب وتظلّ نجلاء تُنجب، بينما هي أيضًا تبكي بذاتِ الحُرقة، وتمنّتْ لو أنَّها لا تُنجب ويظلّ بإمكانِ سعيد الإنجاب.
عَلاقة العمّة نجلاء والعمّ سعيد مبنيةٌ على الحُبّ، ومُؤسسةٌ على المودّةِ والرحمة، والعطفِ واللطف، واللين والرأفة.
عَلاقة العمّة نجلاء بالعمِّ سعيد، عَلاقةُ حُبٍّ لا تنتهي، وإنْ اِجتمعتْ كُلّ الأسباب لإنهائها.
ثُمَّ طوتْ دفترها ونامتْ قريرة العَين.