وفي صباحِ اليومِ التالي، اِستيقظَ أهل البيت على صوتِ بُكاءٍ مرير، هرولَ الجميع نحو الصوت، إنَّهُ آتٍ من غُرفةِ رحمة!
جلستْ في سريرها تتوجعُ ألمًا أصابَ بطنها، أسرعتْ الأُمّ بضمِّها لصدرها وعيناها تذرفان، بينما الأبّ مُتمالكٌ نفسهُ أمامها، سألها أخيها فارس عن آخرِ شيءٍ تناولته؟
أجابتهُ الأُمّ بأنَّها لم تتناول شيئًا مُنذُ عصرِ البارحة.
تساءلَ الأبّ مُتعجبًا عن السبب؟
لتُجيبهُ الأُمّ أنَّ رحمةَ قد شكتْ لها وجعًا بطنها، فقامتْ بعملِ مشروب مغلي الكمون، وقدّمتهُ لها فَشَرِبَته.
ظَنَّتْ الأُمّ أنَّ الوجعَ قد اِنتهى إلَّا أنَّ صوتَ بُكاء ابنتها خَيَّبَ ظنَّها.
حملها الأبّ وأسرعَ بِها إلى الطبيبِ أحمد، شابّ ثلاثيني خَلوق، أشهر طبيبٍ في الحي، لجِدّهِ واِجتهاده، وسماحتهِ وبشاشته، وحُلو كلامهِ وصدق فِعاله، ولأنَّ اللَّهَ قد أحبَّهُ فقد وَضَعَ لهُ القَبولَ في قلوبِ أهل الحي.
وضعها محمود على سريرِ الكشف ليفحصها الطبيب أحمد، بينما فارسٌ يدعو لها بالشفاء.
لحظاتٍ وبدأتْ على الطبيبِ عَلاماتٌ غير مطمئنة، سألهُ محمود عن حالةِ ابنته، فسكتَ لُحيظاتٍ قبلَ أنْ يسألَ رحمة بعض الأسئلة، وطِبقًا لإجاباتها فقد طلبَ من الأبِّ اِجراءِ بعض الفحوصات والأشّعة المقطعية لها في مركزِ الأشّعة والتحاليل.
هرولَ محمود إلى حيثُ أمرَ الطبيب، حتّى إذا ما وَصَلَ أعطى مسؤول قسم الأشّعة مكتوب الطبيب أحمد، ليُسارعَ الآخر بعملِ اللازمِ لها.
عادَ محمود إلى البيتِ ليتركَ رحمة ترتاح بعض الوقت ريثما تظهر نتيجة الأشّعة والفحوصات.
ثُمَّ ذَهَبَ إلى بيتِ أخيهِ عادلَ ليُخبرهُ بما حَدَث.
طرقَ الباب، فتحَ لهُ عادل، رَحَّبَ بهِ وأدخلهُ غُرفة الضيافة، ثُمَّ أخبرَ فاطمة بقدومه.
نَظَرَ عادل لأخيهِ محمود فرأهُ شارد الذهن، شاحب اللون، راعهُ منظره، اِحتضنَ كفَّهُ بكفَّيهِ بحنان، ثُمَّ سألهُ عن سببِ هَمّه، لتذرفَ عينا محمود دونَ إرادةٍ منه.
ربتُ عادل على كتفهِ بحنانٍ ومسحَ دمعهُ ثُمَّ سأله: ماذا جرى أبا فارس؟
تمالكَ محمود أعصابهُ وأخبرهُ ما حَدَثَ لرحمة، فَزِعَ عادل لمقالةِ أخيه، وراحَ ليُخبرَ فاطمة وميدو ومريومة ليتجهزوا، كي يوصلهم لبيتِ أخيهِ محمود؛ ليُسلّموا على رحمةَ قبلَ أنْ يذهبَ بها مع أخيهِ إلى المستشفى.
دقائقَ معدوداتٍ وقد تجهزوا، صحبهم عادل ومعهُ محمود إلى بيتِ الأخير؛ حيثُ رحمةَ راقدةٌ في فراشها.
أخذتْ فاطمة ومريومة تبكيانِ بجوارِ رحمة، بينما فارسٌ يبكي بغُرفتهِ بصُحبةِ ميدو، وعادل يُطمئنُ محمود بأنَّ نتيجة الفحوصات والأشّعة ستكون مُرضية، ولا شرَّ فيها إنْ شاء الرحمٰن.
رنَّ هاتفهُ أسرعَ محمود في الإجابةِ على المُتصل، إنَّهُ مركز التحاليل يؤكد ظهور النتيجة، ويُطالب محمود بالذهابِ إليهم في الحال.
ذَهَبَ محمود بصُحبةِ أخيهِ عادل إلى مركزِ التحاليل، ليُفاجأ بالطبيبِ أحمدَ قد جاءَ وجلسَ مع الطبيبِ المسؤول عن الفحوصاتِ والأشّعة.
تساءلَ محمود في ذُعرٍ عن سببِ قدوم الطبيب أحمد إلى مركزِ التحاليل؟
نَهَضَ إليهِ أحمد ليُخبرهُ أنَّ الطبيب المُختص هُنا قد اِستدعاهُ ليُوضح لهُ أمرًا بخصوصِ حالةِ رحمة.
وهُنا ذرفتْ عينا محمود بعد ما أحسَّ بغُصّةٍ تسري بحلقه، لم يستطع الطبيب أحمد أنْ يُهوّنَ عليه، فقد تساقطتْ عَبراتهِ هو الآخر، فَقَدَ محمود توازنهُ وسقطَ مغشيًا عليه.
أخذَ عادل يُصبّر محمود بعد ما عادَ إليهِ وعيه، وكذا الطبيب أحمد الذي أخبرَ عادل بمرضِ رحمة، فما كانَ من الأخيرِ إلَّا أنْ اِنهارَ باكيًا، لكنَّهُ تمالكَ نفسهُ ليشدَّ عضد أخيه.
سألهُ محمود عن المرض، فأجابهُ بأنَّهُ سرطان الدّم، ذرفتْ عيناهما دونَ أنْ ينبسَ أحدهما ببنت شفة.
لحظاتٍ وأتاهما الطبيب أحمد ليُطمئنهما، أخبرهما أنَّ لمرضِ رحمة علاجٌ فعّال، وقد تعافى منهُ الكثيرونَ بفضلِ اللَّهِ سُبحانَهُ وتعالى، لكنَّ الأمرَ يحتاج إلى الصبر والإرادة.
ثُمَّ طَلَبَ منهما إحضار رحمة لعيادتهِ قبلَ أنْ يذهبا بها إلى مُستشفى الأورام، مضتْ نصف ساعة وكانتْ رحمة راقدة على سريرِ الكشف في عيادته.
هَشَّ لها الطبيب أحمد وبَشَّ، ثُمَّ أخذَ يتضاحك معها، وبعدها أخبرها بسببِ توجعها وتألمها، ونصحها أنْ تكونَ قوية وألَّا تستسلِمَ للمرض، بل وتُحاربهُ بالصبرِ والإرادة بجانبِ العلاج.
تبسمتْ رحمة وأومأتْ لهُ قبلَ أنْ يحملها عادل ويَذهب بها هو وأبيها إلى مُستشفى الأورام.
اِستأذنتْ مريومة أُمّها في الذهابِ إلى العمّة نجلاء، أَذِنَتْ لها فاطمة فذهبتْ.
طرقتْ الباب، فتحتْ لها نجلاء لتندفعَ نحو حضنها باكية، ربتتْ نجلاء على كتفها بحنانٍ وسألتها عن سببِ بُكائها، أجابتها مريومة بصوتٍ يقطعهُ البُكاء أنَّ رحمة قد أُصيبَتْ بسرطانِ الدّم.
شَهقتْ نجلاء شهقةً أفزعتْ سعيدًا الجالسُ بشُرفةِ البيت يُطالعُ جريدة الأخبار.
أسرعَ إليها مُتسائلًا عن السبب، أخبرتهُ بمرضِ رحمة فتساقطتْ عَبراته، ثُمَّ دلفَ غُرفته.
جلستْ نجلاء ومريومة بغُرفةِ الضيافة، أخذتْ نجلاء تُطمئنُ قلب مريومة على ابنة عمّها وشقيقة نفسها رحمة، ثُمَّ أخبرتها أنَّ للنفسيةِ تأثيرٌ كبير في علاجِ هذا المرض، وطلبتْ منها ألَّا تُظهِرَ الحُزن أمامَ رحمة، بل وَجَبَ عليها أنْ تُقوّيها وتُصبّرها، وتُعاملها كما كانتْ تُعاملها قبلَ معرفةِ مرضها؛ حتّى لا تجرحَ إحساسها.
فَهِمَتْ مريومة مقصد نجلاء، وعادتْ إلى البيتِ بعد ما قضتْ معها بعض الوقت، لتُفاجأ بمِنّة وأُمّها جالستانِ بغُرفةِ الضيافة في إنتظارها.
رَحَّبتْ بهما مريومة بعد ما عبّرا عن سببِ زيارتهما المُفاجئة، فقد عَلِمتْ منّة من أخيها وليد، حينَ هاتفَ فارس عبرَ هاتف البيت ليطمئنَّ عليهِ فتفاجأ بردِّ ميدو، الذي أخبرهُ أنَّ فارسًا لم يَقوى على مُهاتفته؛ نَظرًا لحُزنهِ الشديد على أُختهِ رحمة.
أخبرَ وليد أُختهُ منّة، وطلبا من أُمّهما أنْ يذهبا لزيارةِ رحمة والإطمئنان عليها، وافقتْ الأُمّ على طلبهما، ثُمَّ اِستأذنتْ من زوجها المُقيم بدولةٍ عربية شقيقة؛ حيثُ يعمل مُهندسًا في إحدى الشركاتِ هُناك، أَذِنَ لها عبرَ الهاتف، فقامتْ إلى سيارتها تفقدتها ومن ثَمَّ ذهبوا إلى بيتِ مريومة.
سألتْ مريومة منّة عن أخيها وليد، فأجابتها بأنَّهُ جالسٌ مع فارس وميدو بغُرفةِ ميدو، بينما فاطمة تُعِدَّ لهم وجبة الغداء.
مرّتْ ربع ساعة وقد اِنتهتْ فاطمة من طهي الطعام، وهُم الآن يتناولونَ الغداء، بعد ما ذهبتْ فاطمة لبيتِ محمود فجاءتْ ومعها أُمّ فارس.
عادَ الأولاد الثلاثة لجِلستهم داخل غُرفة ميدو، وكذا الأُمّهات الثلاثة يتحدّثنَّ عن رحمة، بينما جلستْ مريومة ومِنّة بحديقةِ البيت تدعوانِ لرحمةَ الغالية.
تمَّ حجز رحمة بمُستشفى الأورام، لتلقي العلاج المُناسب لحالتها، بعد أنْ شَّخصها الطبيب المُختص.
جلسَ محمود وعادل بالإستقبال، رغم أنَّ الطبيب قد نصحهما بالعودةِ إلى ديارهما، إلَّا أنَّهما أصّرا على الجلوسِ بعض الوقت.
أخذَ محمود يَحمدُ اللَّهَ أنْ جَعَلَ لرحمةَ نصيبًا في الأسرِّةِ القليلة المُتاحة بالمُستشفى، بينما عادلٌ يبكي كَالأيتام.
طمأنهُ محمود بأنَّ رحمةَ ستعود أقوى مما كانتْ عليه، وسيفرح بها حينَ تنال شهادتها الجامعية كما كانَ يقول لها دومًا، وستُصبح مُعلّمة كما كانَ يتمنّى.
نَظَرَ لهُ عادل وعيناهُ تذرفان قبلَ أنْ يُضيف: رحمة ليستْ ابنتكَ وحدكَ محمود، بل هي ابنتي التي لم يحملها ظهري، هي بضعةُ رَّوحي، أنسيتَ أنَّني مَن بشّرتكَ بها قبلَ أنْ تولد؟
محمود: بالطبعِ لا، كيفَ أنسى خير البشائر عادل؟
عادل: كُنتُ أطوفُ حولَ الكعبةِ وألهجُ بالدُعاءِ لكَ محمود أنْ يرزقكَ اللَّهُ ببُنيّةٍ كما كُنتَ ترجو، ثُمَّ نِمتُ ذلكَ اليوم فرأيتُ شيخًا كبيرًا ضيّاء الوجه يعُطيني رضيعة جميلة ويقول لي: هذهِ رحمة ابنةُ أخيكَ محمود.
وقد حقَّقَ اللَّهُ الرؤيا حينَ نزلتُ مصر كإجازةٍ من العمل، فحملتْ زوجتي بمريومة، ورزقكَ اللَّهُ بحملِ زوجتك.
مرّتْ الأيَّام وتَركتُ العملَ هُناكَ لأستقرَّ هُنا، وتكبر رحمة أمامَ عيني مع ابنتي مريومة، لذا لا تَلومني حالَ حُزني عليها.
عانقهُ محمود ليطمئنَّ قلبه، ويُذهب عنهُ بعض حُزنه، ثُمَّ عادا إلى البيت.
نَظَرَتْ رحمة حولها فرأتْ ثلاثة أسرّة تحمل ثلاثة من الأطفالِ الذينَ هُم في مِثلِ عُمرها، حَمَدتْ ربَّها أنْ أنعمَ عليها بمكانٍ رغم قِلّة الأسرّة المُتاحة، ثُمَّ أخذتْ تلهج بالدُعاءِ لها ولجميعِ المرضى، وتذكّرتْ حبيبتها مريومة الغالية ففاضتْ عيناها قبلَ أنْ يُداهمها النُعاس.