أنهى صلاتهُ وجلسَ يتلو بعض آي الذكر الحكيم، ثُمَّ قرأ وِرده من أذكار الصباح، وعاد لبيتهِ حتّى لا يتأخر على المدرسة.
أُمّي السلام عليكم ورحمةُ اللَّهِ وبركاته، قد عُدتُ من المسجد.
وعليكم السلام ورحمةُ اللَّهِ وبركاتهُ مُحمّد، كم راجعتَ مِن القرآن الكريم هذا الصباح؟
جزءًا أُمّي وقرأتُ أذكار الصباح.
بارك اللَّهُ لك بُنيّ وحَفِظَكَ مِن كُلّ مكروه.
هيّا لنتناول الإفطار فقد أعددتُهُ كما تُحبّ.
سَلِمت يداكِ أُمّي.
بالهناء والشفاء حبيبي وفلذتي.
تناولا الإفطار ثُمَّ ذهب مُحمّدٌ إلى المدرسة وقامتْ أُمّه بفتح بِقالتها بداخل بيتها.
اِنتهى اليوم الدراسي وأثناء عودتهِ إلى البيت رأى شيخًا كبيرًا جالسًا يبكي في إحدى جَنَبَات الطريق، أسرع إليه سائلًا إيّاهُ: ما يُبكيك جدّي؟
الشيخُ الكبير: الفقرُ بُنيّ؛ فليسَ لديَّ ما أقتاتُ به، ولا أدري ماذا أفعل عندما تَعُود حفيدتي زينب مِن المدرسة ولم أُحضر لها طعامًا؟
مُحمّد: لا عليك جدّي، ولكنْ لماذا تأخرت حفيدتُكَ يا تُرى؟
الشيخُ الكبير: رُّبما لديها بعض الحصص الإضافية، وفقها اللَّهُ وجَبَرَ خاطرها يتيمةُ الأبوين المُجتهدة.
مُحمّد: وفقها اللَّهُ وجَبَرَ خاطرها.
وبعد بضعة دقائق جاءت زينب مُبتسمةً كالعادة.. جدّي.. جدّي قد أتيت.
الشيخُ الكبير: مرحبًا بحبيبتي زينب.
مُحمّد: كيف حالُكِ زينب؟
زينب مُندهشة: الحمدُ لِلَّهِ ثُمَّ نظرت لجدّها سائلةً إيّاهُ بعيناها السوداوين.
تَبَسَمَ الجدّ ونظر لها قائلًا: هذا مُحمّد أحد أقارِبُنا و.... قاطعتهُ زينب: منذُ متى ولنا أقارب جدّي؟
الجدُّ مُبتسمًا: مِن الآن.
مُحمّد: هيّا بنا فقد تأخرنا.
زينب: تأخرنا على ماذا؟
مُحمّد مُبتسمًا وناظرًا إلى الجدّ: تأخرنا على الغداء فأُمّي في اِنتظارنا.
قام الجدُّ مُتكئًا على عصاهُ وأمسك بيدِ زينب ثُمَّ توجهوا إلى بيت مُحمّد.
ها قد وصلنا جَدّ.. هذا بيتُنا وهذهِ بِقالتُنا.
أُمّي السلام عليكم ورحمةُ اللَّهِ وبركاته.
وعليكم السلام ورحمةُ اللَّهِ وبركاته، أهلًا وسهلًا، تفضلوا.
جَلَسَ الجدُّ وزينب بغرفةِ الضيافة، وذهب مُحمّد وأُمّهُ ليُحضرا الغداء من المطبخ، وأثناء ذلك قَصَّ مُحمّد عليها قصة الجدُّ وحفيدتهِ، ثُمَّ أردف مُعتذرًا عن عدم استئذانه لها قبل أن يُحضرهما إلى البيت.
ربتتْ الأُمّ على كتف ابنها ثُمَّ قالت: حسنًا فعلت بُنيّ، فإنْ لم تفعل ذلك غضبتُ عليك، والآن هيّا قبلَ أنْ يَبرُد الطعام.
تَغَدَوا وتحدّثوا قليلًا ثُمَّ استأذنت أُمّ مُحمّد الجدّ في أنْ تدلف زينب البِقالة بصحبة مُحمّد لتختار ما تشاء من الحلوى وبعض الألعاب الموجودة بها.
أَذِنَ لها الجدُّ في ذلك ثم سألها: أُمّ مُحمّد أينَ هو أبا مُحمّد؟
فأجابتهُ بحزنٍ: توفاهُ اللَّهُ مُذ كان مُحمّدًا حَملًا في بطني، وقد ترك لنا بعض المال فافتتحتُ به هذه البِقالة؛ كي أُنفق على نفسي وولدي، وها قد كَبُرَ مُحمّد وبلغ الثانية عشر، ويُساعدني في عملي بجانب دراسته بالمدرسة.
الجدّ: رحمهُ اللَّهُ وأعانكِ وبارك في مُحمّدٍ وجعلهُ خيرُ خَلَفٍ لخير سلف، والآن لنذهب.
أُمّ مُحمّد: إلى أينَ عمّ؟
الجدّ: إلى بيتنا ابنتي، وجزاكم اللَّهُ خيرًا على ضيافتكم لنا، وللعِلم قد أحسنتِ التربية في مُحمّد.
أُمّ مُحمّد: مُحمّد تعالَ وزينب إلى هُنا.. عمّي إنتظرني لحظة.
الجدّ: حسنًا.
جدّي.. جدّي أرأيتَ الحلوى والألعاب التي أعطانيها مُحمّد كُلُّها لي وحدي.
الجدّ: بارك اللَّهُ فيكَ مُحمّد.
مُحمّد: وفيكَ باركَ اللَّهُ جَدّ.
أُمّ مُحمّد قادمة من الداخل: مُحمّد خُذ هذا وأوصلهُ وجدّك وزينب إلى البيت.
الجدّ: ما هذا يا ابنتي؟
أُمّ مُحمّد: هذا عشاءُ زينب طالما أردتما الذهاب.
الجدّ: لا أدري ما أقولُ لكِ؟
أُمّ مُحمّد: قُل أنَّكَ لن تنسانا ولن تحرمنا من بركة مجيئك إلينا.
الجدّ: جُزيتِ خيرًا بُنيّتي، سأفعلُ إنْ شاء اللَّه.
أُمّ مُِحمّد مُقبلّة يد الجدّ بعدما حضنت زينب: تصحبكم السلامة.
ها قد وصلنا بُنيّ، وفتح الجدّ بابهُ دلفت زينب ودلف مُحمّد ثُمَّ وضع ما كان معهُ على الطاولة واستأذن وغادر.
مَرّت الأشهُر ومُحمّد وأُمّه يتعاقبانِ على زيارة الجدّ وحفيدتهِ حتّى مَرِضَ وقبل أنْ يتوفاهُ اللَّهُ أوصى أُمّ مُحمّد بكفالة زينب ذات العشرة أعوام.
وقد كان.. فأخذت أُمّ مُحمّد زينب إلى بيتها لتعِش معها مُتكفلةً بها.
مَرّت السنون وقد كَبُرَ مُحمّد وتخرَّج من الجامعة ليُصبح مُعيدًا بكليةِ الهندسة، وكذا زينب قد تخرَّجت من الجامعة لتُصبحَ مُعيدةً بكلية الآداب، ثُمَّ تزوجا بعد تعيينهما وتبدلت الأحوال للأفضل.
وقد جعلت زينب بيت جدّها وقفاً للَّه؛ فحُوِلَ إلى دارٍ لرعاية المُسنين، ثُمَّ سافر الزوجان إعارة إلى إحدى الدول العربية مُصطحبين بركتهما وتاجُ رأسيهما أُمّ مُحمّد، التي ظلّت تُربّي أولادهما كما ربتهما من قبل، حافرةً في نفوسهم وصاياها الثمينة المُرتكزة على حُبِّ اللَّهِ ورسولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومبادؤها التي لا تتجزأ ولا تتغيّر، كالصدق والأمانة والشجاعة، والثبات عليها مهما كَلَّفَ الأمر.