قد قرأتُ مِن قبلُ بعض التراجم لكنَّني لم أقرأ كهذهِ التي خَصّني اللَّهُ بالنِعمِ فكانتْ قراءتها.
بعض الكُتب نُسِجَتْ بأحرُفٍ مِن نورٍ لتكونَ نِبراسًا يُرشَد بهِ طريق الحقّ رغم غياهب الجَهل.
خَلَقَ اللَّهُ سُبحانَهُ وتعالى العقلَ وحَفِظَهُ بالرأسِ لمدلولٍ خاصٍّ من وجهةِ نظري الشخصية، وهو أنْ نَسمو بفِكرنا، ليسَ لنُفكّرَ وحسب؛ بل لنَرقى بفِكرنا، لذا كانَ مَوضعَ العقل هو أعلى الجسد.
لكُلِّ شيءٍ زينة وزينةُ العقلِ العِلم؛ إذ بهِ يَشعُرُ الإنسان بآدمّيتهِ التي فُضِّلَ بها على سائرِ الخَلائق، فمتى تَزيَّنَ بالعِلمِ وتَجَمَّلَ بالأخلاقِ تحقّقَ المُراد، والعقلُ شريفٌ لا يَحفظُ شرفهُ سِوى تعميرهِ بالعِلم، أمَّا الدناءةَ الناجمة عن إسكانهِ بالجَهلِ فهي مَن تقضي عليه.
قاضٍ من مصر كِتابٌ يُصَنَّفُ ضِمنَ التراجم، حَوى بداخلهِ بعضًا من عُمرِ صاحبهِ على هيئةِ ستمائة وعشرون من الصفحات، طُبِعَ لدارِ المُفكّر العربي للنشرِ والتوزيع، لتزدانَ بهِ المكتبة العربية؛ لِما فيهِ من تعاليمٍ نبيلة وقِيَمٍ شريفة.
حينَ شرعتُ في قرأءتهِ لامستْ أحرُفهُ قلبي؛ فالإهداء رغم بساطتهِ إلَّا أنَّهُ يَحوي بداخلهِ معنى الإعتراف بالجميل، وإنساب الفضل لأهله، ووجوب الشُكر لمَن صَنَعَ لكَ معروفًا ولو بالكلام. اِستوقفتني مقولة الكاتب "أبي الذي رأيتهُ بأُذني" مَرَّرتها على ذاكرتي فوجدتني أقرأها لأوّلِ مرّةٍ بعُمري، لا أدري كيفَ أثّرتْ بي هذهِ الأربعُ من الكلمات؟
رغم قِلّتها إلَّا أنَّها أوصلتْ ما أرادهُ الكاتبَ أنْ يَصِلَ مِن شُعورهِ بالفقد، وكيفَ أنَّ الكلامَ لا يُعوّضُ فاقدًا عن فقيدهِ، وما فَقدهُ معهُ من شُعور.
قاضٍ من مصر خِبرة رصينة في مجالِ العِلمِ والعملِ والحياةِ عُمومًا، يُهديها لنا الكاتب في ورقاتٍ محبوراتٍ بالألمِ والأسى، والحُزن والكِفاح، والصّبر والسعي والمُثابرة.
يبدأ الكاتب في سردِ الفترة التي عاشها وأُمّهِ وأخواتهِ في بيتِ جدّهِ لأُمّهِ الشيخ عبد السلام شبل _رَحِمَهُ اللَّه_ بعد أنْ ماتَ أباهُ الشيخ المُعلّم خيرت المُرّي _رَحِمَهُ اللَّه_ وهو لا يزال ابن الثلاثة أعوام، فيَصف لنا كيفَ كانتْ الحياة بالنسبةِ لأرملةٍ في ريعانِ شبابها؟
أُمٌّ لثلاثةٍ من الإناثِ وذَكرٌ واحد، في مُجتمعٍ يَسودهُ بعضًا من أمورِ الجاهلية، كَتفضيلِ الذكورِ على الإناث، بدايةً من وضعهم وحتّى تزويجهم، ثُمَّ تفضيل أبنائهم على أبناءِ الإناث، وهكذا حتّى أصبحتْ عادة تُوّرَث في المُجتمعِ الريفي آنذاك إلَّا مَن رَحِمَ رَبّي.
وَضّحَ لنا الكاتب الفرقُ بينَ مُعاملةِ جدّهِ _رَحِمَهُ اللَّه_ لهم ومُعاملةِ جدّتهِ ليُؤكدَ أنَّ الرحمةَ لا تُباع ولا تُشتَرى، فالجدّ كانَ أرحمَ النَّاسِ بِهم، يحنو عليهم جميعًا، يُلاطفهم القول، يُضحِكَهم، حتّى يُنسيهم اليُتم الذي رافقهم بعدَ مَوتِ أبيهم، كما كانَ يُشّجعُ صاحبنا على طَلبِ العِلم وحُبّ التفوّق؛ فكانَ كُلّما اجتازَ إمتحانًا شهريًا أتاهُ بالشهادةِ المُرّقمة بالدرجات، ليُعلمَهُ بنجاحهِ وللتوقيعِ عليها، فيفرح الجدّ ويُنادي مَن في البيتِ ليُباركوا لهُ ويُقدّموا لهُ التهنئة؛ ثُمَّ يُخرِج حافظة نقودهِ المصنوعة من الجلدِ ليُعطي صاحبنا نص فرنك، وما أدراكَ ما قِيمة نص فرنك حينها؟
حقًّا العِلمُ يُشعِرُ الإنسان بآدمّيتهِ وهذا ما انطبقَ على الجدّ الشيخ عبد السلام؛ فقد كانَ رَجُلًا وعالِمًا من عُلماءِ الأزهرِ آنذاك، كما كانَ مُحبًّا لكتابِ اللَّهِ العظيم، مُرتلًا لهُ ليلَ نهارٍ لا يمنعهُ عنهُ إلَّا الوضوء وتناول الطعام، حتّى أنَّ أهل القرية أطلقوا على بيتهِ محطة التلاوة تيّمُنًا بإذاعةِ القرآن الكريم من القاهرة.
أمَّا الجدّة فكانتْ حادّة الطِباع، ذكورية من الدرجةِ الأولى كما وصفها الكاتب، تَعرِفُ الحقَّ ولا تَعرِفُ الفضل، لم تَكُن عَلاقتها ببنتها الأرملة أُمّ صاحبنا كَعَلاقةِ أُمٍّ وابنتها، بل كانتْ عَلاقة رئيسٌ بمرؤوسهِ، آمِر ومأمور، حتّى مع اليتيماتِ الثلاث كذلك، أمَّا عن عَلاقتها بصاحبنا فكانتْ تختلف؛ إذ أنَّهُ ذكرًا وهي تُفضّلُ الذكورَ على الإناث، رغم كونها أُنثى رَحِمَها اللَّه.
كانتْ شخصيتها قيادية، عنيدة، تُجيدُ السيطرة، وتهوى التحكُم، وهذا ما لاحظتهُ في الورقاتِ التي ذُكِرَتْ بِهنَّ.
بَيَّنَ لنا الكاتب أنَّ الإنتصار للحقِّ فضيلة، من خلالِ أحدِ المواقف لجدّهِ _رَحِمَهُ اللَّه_ حينَ تركَ أحد أخوالهِ الإقامةَ بالقاهرة وجاء ليُقيمَ ببيتِ أبيهِ في القرية، فكانتْ الأوامر من الجدّة لأمِّ صاحبنا وأخواتهِ بأنْ يَقُمنَّ على رعايةِ زوجِ خالهنَّ وبناته، وعلّلتْ بأنَّهنَّ مُتمديناتٍ لا شأنَ لهنَّ بأعمالِ البيت كَبناتِ الريف.
تحمَّلتْ الأُمّ والبنات وضعًا مؤذي لنفسياتهنَّ، وتحاملنَّ في صمتٍ عدا الأُخت الوسطى لصاحبنا؛ فقد اِحتّجتْ على هذا الوضع، وطالبتْ بإشراكِ بناتِ خالها في المُساعدة بأعمالِ البيت، فما كانَ من جدّتها إلَّا أنْ وبَّختها أيُّما توبيخ!
لم ينتهِ الأمر عندَ هذا الحد؛ فقد عَلِمَ خالها من زوجهِ ما حَدَثَ وما طالبتْ بهِ الفتاة فناداها، صعدتْ الطابق العُلوي من البيتِ المُكوّن من طابقين، الطابق الأرضي للجدّ والجدّة يتكون من ستِ غُرفٍ ودورة مياه، بالإضافةِ لصالة وغُرفة خاصّة بالضيوف، أمَّا الطابق الثاني فهو محلّ إقامة الخال بزوجهِ وبناته.
وعن إقامةِ صاحبنا، فقد خَصَّصَ الجدّ لهم بيتًا صغيرًا مُلحقًا ببيتهِ الكائن بذاتِ المساحة من الأرض، لتظلّ ابنتهُ وأطفالها تحتَ رعايتهِ حتّى يكبُرَ ولدها.
أعودُ بالحديثِ عن الخال الذي لم يترأف باليتيمةِ ناهيكَ عن أنَّها ابنة أُخته، بعدما صعدتْ الطابق العُلوي ومَثُلَتْ أمامهُ نَظَرَ إليها والشرر يتطاير من عينيه، ثُمَّ آذاها بالقولِ قبلَ أنْ يصفعها بكُلِّ قوّته، لتصرُخَ أُمّها صَرخةَ أرملةٍ مكلومة لم يَطِب جُرحها بعد، أخذَ خال صاحبنا في أذيةِ أُمّ اليتيمة حتّى سَمِعَ الجدّ عبد السلام، وهُنا توقفَ عن تلاوةِ القرآنِ الكريمِ ليتساءل: ما الذي يجري؟
أخبروهُ بما حَدَثَ بعد أنْ رأى أصابعَ ابنهِ قد تركتْ أثرها بوجهِ اليتيمة الصغيرة، اِنتفضَ جسدهُ مِن هَولِ ما رأى، وأقسمَ يَمينًا باللَّهِ العليِّ العظيم أنَّهُ لا إقامةَ لهذا الابن معهُ بعدَ الآن، نُصرةً للحقِّ وجبرًا لليتيمة.
أبدعَ الكاتب في إختيارِ المُفردات، وتفرّدَ بروعةِ البَيانِ والإيضاح، كما اِرتكنَ في كِتابتهِ على طريقةِ السهل المُمتنِع، وأحسنَ حينَ أرفقَ بعض الآيات القرآنية الكريمة لإثراء النصّ.
قاضٍ من مصر كِتابٌ فريدٌ بكُلِّ ما تحملهُ الكلمة من معاني؛ فهو مَزيجٌ بينَ العِلمِ والتربيةِ والعملِ والحياة.
سَرَدَ لنا الكاتب بأسلوبهِ الماتع الأسباب التي هيّئتهُ ليكونَ مواطنًا نافعًا وإنسانًا يتميّزُ بآدمّيته.
ولعلَّ أهم وأبرز هذهِ الأسباب بعدَ توفيقِ اللَّه _سُبحانَهُ وتعالى_ هي أُمّهُ العزيزة _رَحِمَها اللَّهُ وغفر لها وجعل لها في الفردوس الأعلى من الجنّةِ مقعدًا_ تلكَ المرأة التي أحببتُها مِن ذِكرِ صاحبنا لها رغم إيجازهِ في ذلك.
حينَ يَصدُقُ الكاتب يُخرِج لقارئهِ جميل ما أوهبهُ اللَّهُ من مكنونِ المشاعر والأحاسيس، وهذا ما حَدَثَ مع كاتبنا وقرائتي لهذا الكتاب؛ حيثُ جعلني أُحِبُّ أُمّهِ _رَحِمَها اللَّه_ وأحترمُ جدّهِ وأُقدّر أخواتهِ اللائي صّبرنَّ على اليُتم، وهذا قلّما يَحدُث، فالكاتب البارع هو مَن يَصِلَ مكتوبهِ لقلوبِ قُرَّائهِ قبلَ أفئدتهم.
أرى أنَّ هذا الكتاب يُعَدُّ مرجعًا لمَن أرادَ التربية الصحيحة لأبنائه، والعَودة بِهم إلى أخلاقياتِ وقِيَم المُجتمع المصري عامّة والريفي خاصّة، تربيةً سليمة أساسيها العِلم والإيمان، بعيدًا عن المُزايدة والمُغالطات.
كما أنصح بهِ لمَن قَلَّ أمله، وضَعُفَتْ هِمّته؛ لِما بهِ من أبوابٍ كثيرة للأمل، ومساحاتٍ هائلة من التفاؤل، وفُسحاتٍ فِكرية ومعرفية يُمكنها أنْ تُساهِمَ في إتساعِ مدارك، وتغذية عقلك بما يَليقُ به.
كذلكَ بهِ من اليقينِ باللَّه، وحُسن التوكّل عليه، وإحسان الظنّ بهِ سُبحانَهُ وتعالى، ما يُقوّي عزيمتك، ويُنَّمي إرادتك، ويُطمئنُ قلبك، حينَ تقرأ مُعاناة صاحبنا وما لاقاهُ، وما أحزنهُ وآلمهُ وأوجعهُ، وغيرهِ من مراراتِ الصّبر التي تَبِعَتها بفضلِ اللَّهِ بِشارات الجبر.
هذا الكتاب إنْ أعطيتهُ حقَّهُ في إبداءِ رأيي المُتواضع فيهِ رُّبما أسطُر بِضع مقالات، لكنَّني سأكتفي بهذا القدر من الإيجاز.
إنْ جازَ لي وصف هذا الكتاب فأصِفهُ بالمكتبةِ المحمولة؛ نَظرًا لغزارةِ ما وُضِعَ بهِ من عِلمٍ، وتَنوعٍ بينَ محتواه، ممّا يجعل فائدتهُ عامّة وليستْ مقصورة على فئةٍ بعَينها.
ما لفتَ اِنتباهي هو صدق الكاتب وصراحتهِ وعدم اِدّخارهِ العِلم الخاصّ بجانبهِ المِهَني، فقد اِستدلَّ ببعضِ مواقفهِ العملية، وقدَّمَ خلالها نصائح ثمينة وصادقة للمَعنيينَ بِها.
قاضٍ من مصر كِتابٌ مُميّزٌ تَفوّقَ على غيرهِ مِن كُتبِ التراجم.