لملمتْ أوراقها المحبوراتِ بحبرِها السرّي بعدما أخرجت بعض ما يُؤرق ليلها، ثُمَّ وضعتهنَّ بصندوقِ أوجاعها؛ ذاكَ الصندوق الذي يحوي أوجاعها دونَ شِكاية، جاءتها الفكرة حينَ ظلمها أباها ولم تجد مَن يُنصفها، بحثتْ في خِزانةِ أشياءها القديمة فوجدتْ لوحًا خشبيًا، قطّعتهُ وصمّمتْ منهُ صندوقًا ليكونَ لها بمثابةِ رَفيقٍ لا يتركها حتّى تستغني هي عنهُ فتُعيدهُ لوحًا خشبيًا كما كان.
أغلقتْ صندوقها وحَفِظتهُ بخِزانةِ ملابسها، اقتربتْ من النافذة المُغلقة، فتحتها لتعلَم أنَّ الليلَ قد أتى بسدولهِ، فقد غَطى ظلامهُ فِناء الدار، أعادتها مُغلقة كما كانتْ وراحتْ لتتوّسد.
وضعتْ رأسها على وسادتها المُبتلّة بِدَمعِها، ثُمَّ لامستْ قفصها الصدري ويكأنَّها تتحسّس قلبها، سُرعان ما رفعتْ يدها عن مَوضعِ نبضها، وقامتْ لتبكي وجعًا ألّمَ بنياطها.
أثناء ذلكَ سَمِعَتْ صوتَ الكروان يأتيها من بعيد، كفكفتْ دَمعَها وأسرعتْ إلى النافذة، فتحتها ليقتربَ صوت الكروان منها، أخذتْ نفسًا عميقًا ثُمَّ تأملتْ ذاكَ الصوت الجميل الذي يَشُّق سكون الليل.
لحظاتٍ وغادرَ الصوت لتعودَ هي لسريرها، نظرتْ ليدها اليُسرى بعدما تحسّستْ عِرقها الموصول بقلبها، وهُنا ذرفتْ عيناها، فأضافتْ: ما هي فائدتُكَ بعدما ماتَ بعض قلبي؟
قُلْ لي؟
بل ما فائدة الجسد حينَ يُقضَى على القلب؟
القلب، تلكَ المُضغة التي لا يَعلمُ أسرارها إلَّا مَن فَطرها.
وهُنا تذكّرتْ قولَ اللَّهِ سُبحانَهُ وتعالى: "ألا بذِكرِ اللَّهِ تطمئنُّ القلوب"، دلفتْ دورة المياه، توضأتْ ثُمَّ صَلّتْ ركعتا قضاء الحاجة، وأخذتْ تلهج بالدُعاء، لعلَّ اللَّهَ يُحدِثُ بعدَ ذلكَ أمرًا.
اِنتهتْ من صّلاتها وقد هدأتْ بعض الشيء، أخرجتْ بعض أوراقها من حقيبتها الصغيرة، وأخذتْ تسطُر بحبرِها السرّي ما يُؤلم قلبها: عجيبٌ أمرَ هذهِ المُضغة!
فقد تكونُ سببًا لسعادةٍ لا يُضاهيها سعادة، وقد تكونُ سببًا في الشقاءِ والتعاسة، وكلاهما موقوفٌ على قضاءِ اللَّهِ وقدره.
حينَ أتأملُ القلبَ أجدْهُ كَالرضيعِ الذي هو بحاجةٍ إلى مَن يعتني به، كذلكَ هو بحاجةٍ إلى مَن يحميهِ ويحفظهُ بل ويُدافع عنه؛ فهو لا حولَ لهُ ولا قوّة لهُ اللهمَّ إلَّا ضَّخ الدّم في العروق.
القلب هو تلكَ الوديعة بينَ أُصبُعِ الرحمٰن، يُقلّبها كيفما شاء، ولأنَّهُ سُبحانَهُ هو فاطِرُ تلكَ المُضغة فلا يُحزنها أبدًا، حتّى وإنْ قدّرَ على صاحِبها البلاء فتراهُ رحيمًا بهِ، مُترأفًا بحاله، يَعزّ عليهِ سبحانهُ أنْ يتركهُ لنفسه، كيفَ لا وهو الذي خلقهُ من الطّينِ ونفخَ فيهِ من رَّوحهِ فجعلهُ بَشرًا.
وضعتْ ورقتها بصندوقِ أوجاعها بعدما اِنتهتْ من كتابتِها، ثُمَّ قامتْ لخِزانةِ ملابسها فارتدتْ زيّها الذي تُحِبّ، ووقفتْ أمامَ المرآةِ تتفقد ملامحها، في تلكَ الأثناء لمحتْ صورة والدها الساقطة بجوارِ المرآة، اِلتقطتها وتعمّقتْ بها حتّى سَالَ دَمعها، وأخذتْ تُحَدّثها: لماذا يا أبي؟
أليسَ من الفِطرةِ أنْ تكونَ سَندي والأمان في هذهِ الحياة؟!
لماذا يا أبي؟
ألم يُفتَرض بكَ أنْ تكونَ قوّتي وحِمايتي؟
لماذا يا أبي؟
قد أحببتُكَ حُبًّا لم ولن يُحبُّكهُ أحدٌ غيري.. أنا بضعتك.
شيءٌ ما كُسِرَ بداخلي حينَ ظلمتني أيا أبتي، ليسَ هذا فحسب، بل وسلبتني أماني فلم أَعُد في مأمنٍ إلَّا من اللَّه.
زحزحتْ طُمأنينة قلبي أبتي فلم أعُد أطمئنّ إلَّا بذِكرِ رَبّي.
حتّى حركتي شُلّتْ حينَ أردتَ أنتَ ذلك.
أينَ أنتَ من الأبوّةِ أبتي وأينَ الأبوّة منك؟!
أمَّا قَبلُ فكنتُ أحزنُ حينَ أُظلَم منكَ أبي، وما ذاكَ إلَّا لوجودكَ بقلبي، أمَّا بَعدُ فقد خرجتَ من قلبي أبي ولن تعودَ إليهِ ثانيةً حتّى ألقى اللَّهَ جلَّ وعَلا، وما كانَ لي عليكَ من حقٍّ فعندَ اللَّهِ المُلتقى.
كفكفتْ دَمعَها المُنهمر وتوّسدتْ بعدما تَلتْ بعض آي الذِكر الحكيم.
وفي صبيحةِ اليوم التالي نهضتْ مُسرعةً لتَنعَم بأشّعةِ الشَّمس الصباحية، ثُمَّ وقفتْ أمامَ المرآةِ لتُحدّثَ نفسها: حتّى وإنْ شَعرتُ بأنَّ شيئًا ما كُسِرَ بداخلي سأُقاوم، وسأُطبِقُ قفصي الصدري على قلبي كي لا يُسمَع لوجعي صوت.
سأَحيِكُ جُرحي بالرضا بقضاءِ اللَّهِ وقدره، وسأقبُرُ دَمعي بمقلتاي، وسأبتسم لأُطمئنَّ مَن حَولي بينما يثورُ ما بداخلي.
هي دُّنيا ما كانتْ لنا وما كُنّا لها، خُلِقنا للعِبادة، وما دونَ ذلكَ ما هي إلَّا أسباب تُعين على العِبادة، وخالِقُ الأسباب كفيلٌ بتوزيعها، كما هو كفيلٌ بالأرزاق.. فقدّرَ اللَّهُ وما شاء فعل.