أخذتْ تطرح أسئلتها على صاحبها الهِرّ الصغير.
أجرَّبتَ أنْ تكونَ حاضرًا غائبًا؟
حيًّا وميّتًا في آنٍ واحد؟
أنا جرَّبتْ، أراكَ تتساءل كيف؟
سأحكي لك، حسنًا سأحكي، لا تُكثر عليّ.
أصعبُ ما في الحياةِ أنْ تعيشَ ببيئةٍ لا تُشبهك، والأصعب أنْ تضطرك الظروف أنْ تتأقلم، والأدهى من كليهما أنْ تتعايش، وكأنَّكَ رَضيتَ بوضعٍ يُفني عُمركَ رويدًا رويدا.
بالطبعِ سيفنى العُمر.. ولكنْ أنْ يفنى وقد عَمِلتَ شيئًا يُفيدكَ وغيرك خيرٌ من أنْ يفنى هباءً منثورًا.
الحُرّية هي من أجملِ نِعَمِ اللَّه؛ فبها يَشعُرُ الإنسان بآدمّيته، يَشعُرُ بالعبودية الخالصة للَّهِ الواحد الأحد.
أنْ تَرى الشَّمسَ والقمرَ والأنجُم فأنتَ حُرّ، أنْ تَرى السماءَ والشجر والطير فأنتَ حُرّ، أنْ تستنشقَ الهواء الطَلق فأنتَ حُرّ، أنْ يتيسر لكَ السير على الأقدامِ وسط الزحام فأنتَ حُرّ، أنْ تسعد فتضحك وتحزن فتبكي فأنتَ حُرّ، أنْ تتوجعَ فتتألم وتُعبّر عن ما بداخلكَ فأنتَ حُرّ.
إحساسٌ مريرٌ أنْ تتألمَ ولا إمكانية لديكَ للتعبيرِ عن ألمك، أنْ تحزنَ ومن غيرِ المُتاحِ لكَ أنْ تبكي، حينها ستلجأ لعالمِ الصمتِ العميق؛ فهذا هو ملجأكَ الوحيد، والمُتاح والمُمكن أيضًا.
أنْ تكونَ حاضرًا غائبًا؛ حاضر الجسد غائب الرَّوح، ولا يَعلمُ بحالكَ إلَّا الذي فطرك، رُّبما لضِيقِ ما أنتَ فيهِ رغم رحابة الدُّنيا، ورُّبما لأذًى أصابكَ بذاتِ المكان الذي أنتَ فيه.
أنْ تكونَ حيًّا وميّتًا في آنٍ واحد؛ حيًّا تأكل وتشرب وتتحرّك، وميّتًا حينَ تُغلق نفسك شُرفاتها، وتُسَدّ فُرجاتِ التنّفُسِ بها، أنْ تَرى نفسكَ وقد عزفتْ عن ما كانتْ تبتغيهِ وترتجيه، حينها ستُدركَ أنَّ الموتَ أنواع، أشدُّها بأسًا أنْ يموتَ بعضًا منكَ وأنتَ على قيدِ الحياة!
ثُمَّ نظرتْ إليهِ فرأتهُ قد نام، تبسمتْ لهُ وراحتْ لتسطر باقي كلامها في دفترها الورقي.