تزوجَتهُ فقيرًا فصبرت عليه وكافحت معهُ، أنجبا أربعة أبناء، رَبّتهم خير تربية، وظلّت ترعاهم حتّى أُصيِبَت بمرضٍ ماتتْ على إثره.
اليوم الثاني من أكتوبر لعام ألف وتسعمائة وثمانون.
دفنها ورثاها ثُمَّ عَادَ لأبنائهِ الصِغار.
أبي أين أُمّي؟
واريتُها الثَرى ابنتي!
آهٍ على فِراقكِ أُمّي.
الأبّ بعدما ضَمّها لصدره: سعادة كوني قوية، فلا سَند للبيت غيركِ بعد أُمّكِ؛ فَلتَصبري لأجل إخوتُكِ الصِغار.
سعادة ذارفةً جَمرُ قلبها في دَمعِها: حسنًا أبي.
الأبّ بصوتٍ مُختنق أشبه بالبُكاء: والآن لتجلسي بجوار إخوتُكِ ريثما أُعِدَّ لكم الطعام.
سعادة: دعني أُساعدك أبي.
الأبّ بصوتٍ خافت: يكفي تعبكِ طِيلة النّهار فأنتِ لم ترتاحي بعد بُنيّتي.
سعادة: كما تُريدُ أبي.
دلفت غُرفة المعيشة حيثُ إخوتها الصِغار يتحدّثون.
سعادة أينَ أُمّنا؟
لم تستطع أنْ تُجيبهم فصمتت.
سعادة مَالَكِ شاردة؟
سعادة: نَعم مهدي.
مهدي: أينَ أُمّنا؟
سعادة وقد تساقط دمعها: ذهبت لخالِقها.
مهدي: كيف ذهبت إلى اللَّهِ دونَ أنْ تُخبرنا؟
سعادة: حينَ تَكبُر ستعلم.
مهدي: إذًا مَاتَتْ أُمُّنا.
سعادة بعدما اِجهشّت في البكاء: باللَّهِ عليكَ مهدي لتصمُت فكلامُكَ يَقطَعُ داخلي.
مهدي رابتًا على كَتفِها بحنان: أُختي أنا لم أَعُد صغيرًا فقد بلغتُ العاشرة، وأتقطعُ مِثلكِ، لكنَّني سأتوحشُ أُمّي؛ ثُمَّ بَكى وبَكى غانم وبَكت ليلى لبُكائهما.
سعادة بعدما اِحتضنتهم: لا عليكم.. سنراها حينَ نذهب إلى ما ذهبت إليه؛ فلا بُدَّ أنْ نصبر كما أخبرتنا في مرضها الذي ذهبت به.
فكفكفوا دموعهم ثُمَّ أخذوا يُحَدِّثونَ بفضلها، وبما عَلَّمَتهم حتّى ناداهم أباهم: أبنائي فلذاتي قد حَضرَ الطعام فهيّا لنتناوله.
نَظَرَ الأبّ لأبنائهِ ثُمَّ أخفى دَمعةً كادت أنْ تسقط من عينهِ وأضاف: لا حول ولا قوة إلَّا باللَّهِ العليّ العظيم، هكذا حالُ الدنيا فكُلّنا ضيفًا عليها، مُنذُ سبعةَ عشر عامًا كانتْ أول ليلة لأمّكم مَعي؛ فقد تَزوجنا في هذا البيت الذي لم يكن بهذا الترتيب وقتها، صَبَرت عليّ وتَحملَّتني وأعانتني على كُلِّ خيرٍ،ورَبَّتكم حبّذا تربية، ورحلت عنّا كنسمةِ هواء بعدما أُصيبت بالسرطان فرحمها اللَّه، وطيَّب ثراها، وبرحمتهِ في الجنّة نلقاها.
فردَّ الأبناء: اللهم آمين يا ربّ العالمين.
مَرَّت الأيَّام وبلغت سعادة ثمانيةَ عشر عامًا، واليوم الذِكرى الثالثة لوفاة والدتها.
سعادة ألم تَنتَهِ بعد؟
سعادة: بلى قد اِنتهيتُ أبي ولكنَّني أُرتب العُلب.
الأبّ: رحمكِ اللَّهُ نادرة؛ فقد تركتِ لي شبيهتُكِ في كُلِّ شيء.
سعادة: رحمها اللَّهُ وبارك لنا فيكَ أبي.
الأبّ مُبتسمًا: هيّا فالنّاس تنتظرُنا، أخشى أنْ نتأخر عليهم.
سعادة: حسنًا أبي تفضل.
الأبّ: سَتركِ اللَّهُ ابنتي.
ثُمَّ خَرَجَ لمَن دعاهم لبيته كما يفعل كُلَّما جاءت ذِكرى زوجتهِ الراحلة.
مهدي.. ليلى .. غانم .. هيّا لتتناولوا ما أَعددتُ لكم من حَلوى.
مهدي بعدما اشتمّها: يا اللَّه على طِيب رائحتها.
ليلى بعدما تذوقتها: شَهِيّةٌ كالعادة.
غانم وقد لَعِقَ أصابعه بعد تناول بعض الحَلوى: سعادة تُطهو لنا حَلوى السعادة.
سعادة فَرِحةً: بالهناءِ والشفاء.
جزاكِ اللَّهُ خيرًا بُنيّتي وعوّضكِ بالجنّة.
سعادة مُقبّلةً رأسُه: آمين وإيَّاكَ أبي.
مَرّت الأيَّام وأَنهَى مهدي تعليمهُ الثانوي مُلتحقًا بكلية الهندسة، وتزوجت ليلى من ابن جيرانهم وأنجبت ذكرينِ وأُنثى، والتحق غانم بالثانويةِ العامّة بقريتهم، ولا زالت سعادة في بيت أبيها؛ رافضةٌ تركُ أبيها وأخويها كما فعلت أُختها الصغيرة ليلى.
سعادة أُريدُكِ في موضوعٍ هام.
تفضّل غانم، أَنْصِتُ لك.
غانم: أُختي وأُمّي وتاج رأسي، ما رأيُكِ أن تتعلّمي الكتابة ومن ثَمَّ القراءة؟!
سعادة وقد أخذتها الدهشة: أيصّحُ بعد كُلّ هذا العمر؟
غانم ضاحكًا: عُمرُ مَن؟.. ألا ترينَ نفسكِ؟
سعادة: ماذا تقصد؟
غانم: أقصد أنَّكِ مازلتِ صغيرة فلا تُكّبري نفسكِ كما أنَّ العِلمَ ليس حِكرًا على عُمرٍ بعينه، فالعِلم بالعقول لا بالأعمار!!
سعادة مُبتسمةً: هكذا إذًا، حسنًا.
غانم: والآن لتنتبهي معي.
سعادة: حسنًا.
ظلَّ غانم يُعلّمُ سعادة حتّى التحق بالجامعة؛ بعدما أَنهَى مهدي دراستهُ وذَهَبَ لإحدى الدول العربية ليعمل بها، وفي تلك الأثناء مَاتَ الأبّ؛ تاركًا لهم ذِكراهُ العَطِرَة وبعض المال ليقتاتوا به.
سعادة.. سعادة أُريدُكِ أنْ تفرحي معي.
سعادة فَرِحةً: إذًا قد ظهرت نتائج الإختبارات.
غانم: أجل وقد حَصلتُ على تقدير إمتياز مع مرتبة الشرف.
سعادة بعدما أسمعت الجيران بصوت فرحها: مُباركٌ عليكَ حبيبي، والعُقبى للتعيين حضرة الطبيب غانم.
غانم باكيًا: لا تُنَاديني بالطبيب؛ فأنا ابنكِ غانم الذي ربَّيتيهِ وسَهرتِ معهُ في مذاكرته دونَ عِلمُكِ بها، والآن وَفَقَني اللَّهُ بفضل دعائكِ لي تاج رأسي ثُمَّ قَبَّل يداها.
سعادة باكيةً: رَحِمَ اللَّهُ أَبوينا فقد أَحسَنَا لنا التربية، وأنتَ أخي أحسنتَ إليَّ حينَ عَلَّمتَني كيف أكتبُ وأقرأ، فكأنَّك أزلت غشاوةً كانتْ تُعمِي عقلي عن عمله فجزاك اللَّهُ خيرًا.
مَرّت الأيَّام وعَادَ مهدي من غُربته كإجازة، قَامَ فيها ببناء البيت وزخرفته، وأعانَ أخيه غانم على الزواج من نور ابنة عميد كلية الطب التي عُيَّنَ غانم مُعيدًا بها بعد تفوقه وحصولهِ على المركز الأول على سائر دُفعته، كما جَلب مهدي خادمة لتُريح سعادة من أعباء البيت.
سعادة أتُريدين شيئًا آخر أُمّي؟
سعادة: سَلَّمَكَ اللَّهُ لي مهدي فأنتَ لم تجعلني أحتاج شيئًا ، ولكنَّي أُريد!!
مهدي: فقط أَنطِقي بما تُريدي أُحضرهُ لكِ في الحال.
سعادة: أُريدُ أنْ أراك زوجًا وأبًا.
مهدي: ليسَ قبلكِ .
سعادة: بل قَبلي.
مهدي: باللَّهِ ليس قبل أنْ أطمئن عليكِ في بيت زوجٍ صالحٍ يُسعدكِ ويتَقي اللَّهَ فيكِ .
سعادة في خجلٍ: كما تُريدُ أبا حبيب.
مهدي: أبا حبيب؟
سعادة: أجل فأوّل ذريتك بمشيئة اللَّهِ سيكون حبيب لتكن أبا حبيب.
مهدي مبتسمًا: رَحِمَكَ اللَّهُ أبي، فقد كنت ذا حظٍ من اسمك.
سعادة: رَحِمَهُ اللَّه.
مَرَّ شهران وقد تزوجت سعادة من مهندسٍ زميل أخاها مهدي، وأقامت معهُ خارج مصر بجوار بيت أخيها مهدي؛ الذي تزوج بعدها بأسبوع وسافر بزوجتهِ للإقامة محلّ عمله، ولاحقًّا سافر غانم إليهم بزوجتهِ كإعارة لإحدى المستشفيات هُناك، ولم يَبقى منهم في مصر سوى ليلى.
أبا يحيى قد اِتصل بي إخوتي اليوم وأعادوا عليَّ دعوتهم لأُسافر إليهم؛ كي أقضي معهم بعض الوقت فما رأيك؟
أبا يحيى: الرأيُ لكِ أُمّ يحيى.
أُمّ يحيى: إذًا سأُسافر أنا وأنت والأولاد.
أبا يحيى: حسنًا.
مَرّت ثلاثة أشهُرٍ وحانَ موعد السفر.
موسى هيّا بِنَا لقد تأخرنا، أينَ أنتَ الآن أبا يحيى؟
أبا يحيى: إذهبوا أنتم إلى المطار وسألحقُ بكم.
أُمّ يحيى: كيف.. كيف أبا يحيى؟
أبا يحيى: كما سَمعتِ.
ذهبت بأولادها للمطار منتظرين قدوم أبا يحيى؛ الذي تأخر حتّى همّت الطائرة بالتحليق، فجاءها اِتصال من رقمٍ مجهول.
السلامُ عليكم.. أحضرتُكِ زوج موسى مدبولي؟
أُمّ يحيى: أجل ولكن أين هو؟
بعد لحظات صرخت ليلى بكل طاقتها: هذا ما جنيتُهُ بحقِّ نفسي لَيتني صبرتُ كما صبرَت أُختي سعادة ففي العجلة الندامة.. عليكَ اللَّهُ يا موساااا؛ فقد أصبتَنا بالعار.. إختلاس.. عليكَ اللَّه.