وُلِدَ بريئًا من خَبَث الدُّنيا، طاهرًا من خُدعها، نظيفًا من مكرها؛ تُرى سيظلُّ هكذا أم سيُغير فطرتهُ النَقيّة كي يتعايش مع أهلها؟!
خالد حبيبي لماذا تجلسُ وحيدًا هكذا؟
خالد: لا شيء أُمّي.. فقط أُريدُ أنْ أختليَ بنفسي بعض الوقت.
الأُمّ: بُنيّ أراك تُحِبُّ العُزلة وهذا ليسَ جيّدًا لك.
خالد: لا تقلقي أُمّي، كُلُّ ما في الأمر أنَّي مُنشغلٌ بالتفكير في أمرٍ ما.
أُمّ خالد: وما هو بُنيّ؟
خالد: أُفكّرُ كيف سأعيشُ بهذه القرية التي لا تُناسبني و......
أُمّ خالد مقاطعةً: ولِمَ لا تُناسبُكَ وذوي قُربتُنا هم جيراننا ولا غريب بيننا؟
خالد: أُمّي لا أقصد هذا ولكنْ ما قصدتهُ هو أنَّي لا أُحبُّ أنْ أكونَ بجوار مَن هم أكبرُ منّي عُمرًا وعملًا حتّى وإنْ كانوا ذوي قربتي.
أُمّ خالد: استَعِذ باللَّهِ بُنيّ، يا ليتَ للنّاس أقرباء كذوي قربتك، أنت في نِعمةٍ لا تعلمُ قدرها.
خالد: بل في نقمةٍ أُمّي طالما ذوي قربتي أحياء!
أُمّ خالد: بخٍ بخٍ على ما حملت بطني، أتُريدُ الهلاك لذوي قربتك؟
خالد: لا تقلقي أُمّ خالد، لا أُريدُ لهم الهلاك ولكنْ أُريدُ أنْ لا أُجاورهم أو يرحلوا هم.
أُمّ خالد مُنهارةٌ من البكاء: خالد أنتَ عاقٌّ لذويك مُذ كنتَ شابًّا وإلى الآن بعدما أصبحتَ راشدًا ولديك زوجة وأبناء لازلت تحقدُ عليهم.
خالد: وما عساني أنْ أفعل أُمّي؟
أُريدُ أنْ يظهر بيتنا كبيرًا ولو شكلًا، حتّى في هذا لا مكان لي بينهم؛ فبيوتهم شاهقة ضخمة شاسعة المساحة، يكاد مَن يراها يظنُ بيتنا أحد أعمدتُها.
أُمّي قَتَلني القهر ولا أدري ماذا أفعل كي يظهر بيتنا ونظهر نحن؟
أُمّ خالد: اِحمد اللَّهَ بُنيّ على ما أنتَ فيه من نِعَم، ولا تنظر لمَن فُضّلوا عليك ولكنْ انظر إلى مَن هم دونك.
خالد: تُصبحينَ على خيرٍ أُمّي، سأذهب للنوم.
أُمّ خالد: هداك اللَّهُ بُنيّ.
أبا مُحمّد ما بك هذه الليلة؟
خالد لزوجته: لا عليكِ أُمّ مُحمّد، أُفكّرُ في بعض الأمور.
أُمّ مُحمّد: وهل يجوزُ لي أنْ أُشاركك إيّاها؟
خالد: لا أُمّ مُحمّد، لا أُريدُ إتعابُكِ يكفي ما تُلاقيه من الأبناء.
أُمّ مُحمّد: لكَ ما شئت، أتُريدُ منّي شيئًا قبل أنْ أنام؟
خالد: شكرًا حبيبتي، تُصبحينَ على خير.
أُمّ مُحمّد: وأنت من أهل الخير أبا مُحمّد.
كل يومٍ يَكبُر عمّي معبد وتزداد شهرتهُ وعراقتهُ وكذلك عمّي سيف الجميع يُحبّهُ فماذا عنّي؟
ماتَ أبي وتركني مع إخوته الغالين على قلبه، ماذا أفعل كي أشتهر ويُذاع صيتي؟
أأُسايسهم؟
ولكنَّ السياسة معهم لا تُجدي نفعًا، إنْ خاصمتهم وقاطعتهم خسرتُ كُلّ شيء؛ فتسعونَ في المائة من حياتي وأهلُ بيتي قائمٌ على علاقتي بعمّايَّ، إذًا ماذا سأفعل؟
نَعم وجدتُها "فَرِّق تَسُد" سأعملُ على هذا في الخفاء؛ حتّى لا يعلم بأمري أحد.
رَكزّ خالد على العداوة القديمة بين عمّاهُ والتي تكوّنت نتيجة الحقد أيضًا؛ فالحقدُ يُوَرث كما الإرث.
بحثَ خالد عن أعداء عمّاهُ والذين هم بالطبع أعداؤه وخطط معهم لتدمير عمّهِ معبد وهو العم الأكبر لهُ وتركيع عمّهِ سيف وهو الثاني والأكبرُ من أبيه أيضًا.
دَبّرَ خالد مؤامرة ثُلاثية الأطراف باشتراكه فيها مع ألدّ أعدائه وهما هيكل والأسود.
خالد: سَيّدي هيكل أعتذرُ عن أي تجاوزاتٍ في حقّكم من قِبل أبي _رحمهُ اللَّه_ فكما تعلمون كان مُتيّمًا بحبّ إخوتهِ ووحدتُهم.
هيكل: رحمهُ اللَّه، وماذا عنك أنت؟
خالد: أنا مُتكافيءٌ معكم فِكريًا فعمّايّ وبَنِيهم لا يستحقّونَ ما بهم من نِعَم.
الأسود: أهلًا، أهلًا، أهلًا أبا مُحمّد.
هيكل مُقاطعًا: وماذا تُريدُ أنْ نفعل بهم؟
خالد وقد أراحَ ظهرهُ إلى مسند مِقعده: أُريدُ أنْ أراهم أقزام لا تُرى سوى بالعين المُجرّدة، أُريدُهم جياعٌ عُراة، أذلاء خائنون فيما بينهم، وقبل كُلّ هذا أُريدُ هدم بيوتهم الشاهقة كما أنوفهم العالية، وكذا أُريدُ مكانتهم تُسَوَّى بالأرض. الأسود: مرحبًا بك خالد فقد وصلت المكان المناسب في الوقت المناسب!
هيكل: سنفعلُ بهم ضعفَ ما تُريد، ولكنْ يُراودُني سؤال أجبني عليه: لماذا كُلّ هذا وهُم رَحِمُكَ وذويك؟
خالد: لأنَّني أحمُلُ لهم الحِقد والحسد لِعُلُّوِ شأنهم.
اِتفقَ الأسود وهيكل وخالد على تدمير معبد وإذلال بنيه، وإجاعتهم وقتل رجولتهم، وكسر نفوسهم، كما اِتفقوا على إخضاع سيف وبنيه لخالد يفعلُ بهم ما يحلو لهُ.
ظَلَّ خالد يفتكُ بذويه بمعاونة أعدائه حتّى دَّمَّر عمّهُ معبد وأَذَلَّ بَنِيه، وأَخضَعَ عمّهُ سيف لطمَعهِ في بيته، وحَدَثَ لخالد ما كان يرجو؛ فبيوت عمّاهُ قد هُدِمَت ورجولة بَنوهم قد قُتلت، ونفوسهم قد كُسرت وأمتهنوا الخيانة فيما بينهم، وتَسَوَوا بالأرض حقًّا؛ ليُصبح بيت خالد هو القائم على أنقاض بيوت عمّاهُ.
وقد تغير الحال فبعدما كان يعيش خالد في كنف عمّاهُ أصبح بنو عمّومته _الميتون وهُم أحياء _يعيشون على معونة خالد والتي يتفضل بها عليهم _ كما يقول بنوه_كما يستترون بملابس خالد البالية من كثرة استخدامها من قبل، ظلّوا هكذا إلى أنْ حَدَثَ ما لم يكن ببال.
أغثني أبا مُحمّد، وا شرفااااااااه.
خالد مذعورًا: ماذا حدث أُمّ مُحمّد؟
أُمّ مُحمّد: كاد أنْ يَلحق بنا العار لولا...
خالد مُقاطعًا: العار.. ماذا حدث؟
أُمّ مُحمّد: إحدى بناتُك كانتْ تسير في شوارع القرية طلبًا للفُسحة، وأثناء سيرها رأها أحد جنود هيكل والأسود حليفاك فسار وراءها وأوقفها مُهدّدًا إيَّاها بسلاحه _الذي دفعت لهم ثمنهُ _ فوقفت خائفة تَبكي، دفعها الجُنّدي فسقطت على الأرض وصرخت فسمعها ابنُ عمّها سُليمان فقاطعها خالد: سُليمان ابنُ حمزة ابنُ عمّي معبد؟
أُمّ مُحمّد: نعم هو لا غيره، سمعها سُليمان وهو لا يدري إنْ كانتْ ابنةُ عمّه أم لا، فقط أتى على صوت صُراخ امرأة تستغيث لنجدة شرفها، ألقى الجُنّدي الحليف سلاحهُ وقبلَ أنْ يَنقضَّ على ابنتُك انقضَّ عليه سُليمان؛ وأبرحهُ ضربًا وقطع أحد أصابع يده بأسنانه، ثُمَّ تفلهُ على وجهه الخبيث الماكر، ثُمَّ قام إلى ابنتُك فساعدها على القيام وخلع رداءه وسَتَرَها به، وأخرجها أولًا وقبلَ أنْ يخرج هو سقط شهيدًا على الأرض غارقًا في دمائه؛ من كثرة ما أُطلق عليه من رصاص الجُنّدي الحليف، فلمّا رأت ابنتُك هذا المشهد صُرِعَت وإلى الآن تُصرَع.
أراك صُدِمتَ خالد.
خالد: أمات سُليمان؟
أُمّ مُحَمّد: لا تقُلْ مات بل استُشهد وهو يُدافعُ عن عِرضك، أمَّرُ ما في الأمر ليس تحالفك معهم ودفع ثمن أسلحتهم وإبقائهم في قريتنا، أمَّرُ ما في الأمر أنَّ رداء سُليمان والتى تستترُ به ابنتُك إلى الآن هو رداؤك القديم البالي الذي تتفضّل به على بني عمّك وبَنوهم؛ هذا الرداء يكشفُ أكثر ممّا يستر، ولكنْ هذا هو الموجود فلو لسُليمان خيرًا منهُ لستر به ابنتُك، اللومُ عليك أنتَ خالد فلو أعطيتهم ملابسًا جديدة تليقُ بهم لسُتِرَ لحمُ ابنتُك المكشوف بعضهُ الآن.
خالدٌ قد أخطأت في حقّ ذويك حين حقدت عليهم، ومن قبلُ أخطأت في حق نفسك حينَ لم تدع لنفسك فرصة لتُحبّهم كما كانوا هم يُحبّونك، لم يفت الأوان لتُصححَ خطئك ما دُمتَ حيًّا.
أخذ خالد يسترجع ما كانَ بين أبيه وعمّاهُ من وُدٍّ ورحمة ورأفة فيما بينهم واتحادهم على عدوهم وتذكّر قول أبيه لهُ: "أي بُنيّ، عليك أنْ لا تأمن لعدوك مهما غَرَكَ تعامله معك، فهو الخائنُ الغادر الخبيث الماكر، إلزم عمّومتك أطِع أمرهم وكَبِّرهم واكبر معهم، واتقي اللَّه في نفسك وفيمَن حولك، وارضى بما قسم اللَّهُ لك تعِش مُطمئنًا مُرتاح البال، خالد أُوصيك بتقوى اللَّه في الأمور كلّها وصِلة رحمي فأحبّهم ووِدّهم ".
لم يتمالك خالد نفسهُ فبكى، وذهب إلى مكان الشهيد؛ حيثُ سُليمان غارقٌ في دمائه!
وصل وما أنْ رأى سُليمان فأنكّبَ عليه باكيًا ومُقبّلًا ومُرتجِلًا:
آهٍ و آهٍ الفُ آهٍ على
مَن جاد عليَّ بروحهِ وتَفَضَلا
حَمى عِرضي وغَطى لحمي
بردائهِ المُهلهلا
سُليمانُ ابني قتلهُ الحليف
الغادرُ الخبيثُ والماكرا
أهلي وددتُ أعدائهم
ووُدّي بهم قد تَقَطَعا
أخطأتُ حينَ تركتُ عَرين قومي
لأحتمي بجُحرٍ لا تَرضى بهِ النّملة مَخبَأَ
ومِن مَن أحتمي من أهلي
مِن مَن أنا منهم لحماً ودَمَا
أهذا ما رُبِيتَ عليه أبا مُحمّدٍ؟
بخٍ بخٍ لكَ خالدا
سُليمانُ ابني لا عدوي
بئسًا لكما هيكلَ وأسودا
بئسًا لي لرضوخي لكما
دمّرتُ أهلي مَقامًا ومَنزلا
آهٍ و آهٍ الفُ آهٍ على
مَن جاد عليَّ بروحهِ وتَفَضَلا
آهٍ و آهٍ الفُ آهٍ على
مَن ضَّحى لأجل عمّهِ الخائنا
آهٍ و آهٍ الفُ آهٍ على
مَن كان يعذرُ عمّهِ الحاقدا
آهٍ و آهٍ الفُ آهٍ على
مَن كان يدعو اللَّهَ أنْ يهدي عمّهِ العاصيا
وداعًا وحُبًّا وشوقًا
للشهيد ذو الوجه المُتهللا
سامحني ابنُ أخي
فقد اتيتُكَ نادمًا مُستسمحا
سلامًا سلامًا ابنُ أخي
اتيتُكَ مُودّعا
فوداعًا وداعًا
سُليمانَ الطيّبا
ربّاهُ يا مَن رفعت بلا عمد السما
يا مَن يسجُدُ لك الشجر والأنجُما
ربّاهُ يا مَن تفرحُ بتوبة عبدك العاصيا
أتيتُ بابك فما مِن
بابٍ في وجهي إلا وقد أُغلقا
إلا بابك ربّي
فدائماً مفتوحاً لا مُغلقا
أتيتُك ربّي عاصيًا مُذنبا
نادمًا أفقتُ مؤخرًا فأصبحتُ الآن مُدركا
أسألك ربّي باسمك التوّاب
أنْ تتوب عليّ وتغفر لي وأنْ تُمتني تائبا
يا ربُّ صَلِّ وسلّم عدد حبات الرمال ومياه الأنهار والبحار والأمطار على سيدنا مُحمّدا.
قام خالد ودفن سُليمان ثُمَّ ذهب إلى عمّاهُ فسلّم عليهما فلم يردا عليه السلام فأنكبَّ على أقدامهما نادمًا مُستسمحًا.
نظر معبد إلى سيف في إشارةٍ منهُ بمسامحة بُنيّهم الصغير ما دام مُعترفًا بخطئه ساعيًا لتصحيحه، أقاماهُ واحتضناهُ معًا ثُمَّ جمَّعوا بَنوهم لوضع خُطة لطرد هيكل وأسود من قريتهم؛ وقد كان.. فذهب خالد إلى الحليفان وألغى إتفاقهِ معهما وأمرهما بالخروج من قريته إلَّا أنَّهما لم يوافقا وكادا يقتلانه برصاصهم؛ حينها ابتعد خالد قليلًا فإذ بالقرية كُلّها خلف ظهره مُتسلحينَ بإيمانهم باللَّهِ مُتحِدينَ.. فَرَّ هيكل وأسود هَارِبَينِ بجنودهما ممّا رأوهُ من قوة أهل القرية.
أعاد خالد الأموال التي جَمَعَها إلى أهلهِ وشارك المهندسين في بناء بيوت عمّاهُ لتُصبح أضخم ممّا كانتْ عليه.