الجو باردٌ اليوم ليتني أتيتُ بمِعطفي لأتوارى بهِ من البرد.

جَدّتي ما الذي أتى بكِ في هذا البرد؟ 

جئتُكِ بالمِعطف خشية أنْ يُصيبكِ البرد بأذى. 

سَلِمَت يداكِ جدّتي وأدامكِ اللَّهُ لي.

ولي أدامكِ اللَّهُ فاطمة.

سأعودُ إلى البيت.. أتُريدينَ شيئاً بُنيَّتي؟

سلامتُكِ أُريدُ جدّة.

ثُمَّ واصلت فاطمة عملها في حقل العُمدة كمعظم فتيات القرية الفقيرات؛ فما تحصل عليه من هذا العمل تقتاتُ به هي وجدّتها لتبقيّا على قيد الحياة، التي فارقها أبواها مُذ كانتْ في العاشرة من عُمرها؛ فانتقلت كفالتُها إلى جدّتها لأُمّها وهي الوحيدة الباقية من ذوي رَحِمها، ظلّت الجدّة تعمل وتَكّد لتُلّبي لفاطمة إحتياجاتها من غذاءٍ ودواءٍ وتعليم، حتّى بلغت فاطمة الخامسة عشر حينها إزدادت المصروفات الدراسية وحتمًا ستزيد إنْ أكملت فاطمة تعليمها الثانوي، فأخرجتها من التعليم وأجلستها بالبيت ثُمَّ تَعِبَت بعدها ولم تستطع إكمال كَدّها لتعولها، ومن هُنا بدأت فاطمة بالعمل في حقل العُمدة وإلى الآن، وقد تجاوزت العشرين من عمرها. 

فاطمة بماذا تُتمتمين؟ 

بآياتٍ من القرآن الكريم.. بدرية ما رأيُكِ أنْ أُحفظّكِ ما حَفِظت؟ 

بدرية بصوتٍ حزين: ليتهُ يُجدي. 

فاطمة بعدما ربتت على كَتفِها: ولِمَ لا؟ 

بدرية بعدما أطلقت زفرة حارّة: الهمومُ صديقتي.. الهموم قد سكنت الدماغ فأضعفت الذاكرة. 

فاطمة في مرحٍ: وهل للحياةِ مذاق بلا هموم؟ 

بدرية مُتعجبة: ماذا تقولين؟ 

فاطمة: نعم، فالحياة بلا هموم مليئةٌ بالملل، ما 

فائدة الحياة إنْ كانَ كُلّ ما تُريديهِ بحوزتك؟

لا فائدة، لرُّبما لدى البعض، ولكنَّ الهموم تجعلُنا نُكافح ونُكافح ونُكافح آملين أنْ نُحقّق ما نُريد وهنا تكمن المَيزة؛ فيا حبيبتي نحن نؤجر على تعبنا ونُرضي أنفسنا بالسعي وعلى اللَّهِ الإتكال.

بدرية مُبتسمةً: صدقتِ حبيبتي. 

فاطمة: والآن أوشكنا على الإنتهاء من عملنا هذا اليوم، وبعدهُ تأتينَ معي إلى جدّتي نتناول الطعام، ثُمَّ نقرأ بعضاً من آيات القرآن الكريم. 

بدرية: حسنًا. 

السلامُ عليكم ورحمةُ اللَّهِ وبركاتهُ جدّتي. 

وعليكنَّ السلام ورحمةُ اللَّهِ وبركاته. 

فاطمة بعدما قبَّلت يُمنى جدّتها: جدّتي قد دعوتُ بدرية لنتناول الطعام سويًا ثُمَّ نقرأ بعضًا من القرآن الكريم. 

تبسمت لها وأضافت: أشرقت الأنوار.. أهلًا وسهلًا ومرحبًا ببُنيّتي بدرية. 

بدرية بعدما قبَّلت جبينها: أهلًا بكِ جدّتي. 

فاطمة: سأُحضّر الطعام فلتكنَّ على إستعداد لإلتهامه. 

الجدّة: سلمت يداكِ بُنيّتي. 

بدرية في وجلٍ: جدّتي أُريدُ أنْ أُخبركِ بشيءٍ فهلّا سمحتِ لي بذلك؟ 

الجدّة: أجل على الرُحب بُنيّتي. 

بدرية: جدّتي أتعرفينَ مراد بيه الذي يقطن قرب مدخل القرية ببيته المزخرف؟

الجدّة: أجل عَرِفتهُ مراد بيه ابن الحاج هشام _رحمهُ اللَّه_ لكنْ لماذا تسألين؟ 

بدرية: لديه ابنٌ وحيد يكبُرُنا بسنوات وابنة تقربُ من عمرنا. 

الجدّة: نعم أعلمُ ذلك.

بدرية: منذُ فترة وأنا أرى ابنه هشام يترقب فاطمة عند عودتها من الحقل!! 

الجدّة: كيف لاحظتِ ذلك؟ 

بدرية: عندما يأتي بسيارتهِ ثُمَّ يتوقف منتظرًا خروجها من الحقل ليتبعها بسيارتهِ مُبطِئًا القيادة. 

الجدّة: مُنذُ متى؟ 

بدرية: مُنذُ شهرينِ تقريبًا. 

الجدّة: وفاطمة ما رأيُها برأيك؟ 

بدرية: هي تغفلُ ذلك ولا تهتم بشيء. 

الجدّة: نِعمَ البنتُ فاطمة. 

بدرية: حفِظها اللَّه. 

فاطمة مداعبة: ها قد جاء الطعام ثُمَّ وضعتهُ على المائدة وأضافت.. هيّا لنلتهمهُ اِلتهامًا. 

تناولنَّ الطعام، ثُمَّ أخذت فاطمة تقرأ على بدرية بعضًا من قِصار سور القرآن الكريم، وبدرية تُنصت ثُمَّ تُردد ما سَمِعَت. 

مَضى شهر على ذلك اليوم، وقد حَفِظَت بدرية الجزء الثلاثونَ من القرآن الكريم؛ نظرًا لإحتوائه على قِصار السور فأحبّت فاطمة أنْ تبدأ بهِ معها.

صباحُ الخير يا هذه. 

صباحُ الخير.. نعم ماذا تُريدُ حضرتُك؟

ما اسمكِ؟ 

ماذااا؟!

لا تُخطيء الفَهم. 

اسمي بدرية.

وأنا هشام.

أُريدُ أنْ أسألكِ عن فاطمة؟ 

وماذا تُريدُ منها؟ 

أُريدُ أنْ أتحدّث إليها ونيّتي خير واللَّهُ يعلم. 

بدرية فَرِحةً: أتنوي زواجها؟ 

هشام مُبتسمًا: أجل ولكنّي لم أتعرّف عليها بعد. 

بدرية: لا تقلق، ففاطمة لا مثيل لها ذات دين وخُلق، وتتقي اللَّه، وطيّبة وحنونة وجميلة. 

هشام: ما شاء اللَّهُ لا قوة إلَّا باللَّه. 

بدرية: سأتركها اليوم وأذهب بمفردي بعد انتهاء العمل، فلتغتنم الفُرصة. 

هشام: شكرًا لكِ بدرية. 

وصلت الحقل وبدأت العمل دونَ أنْ توضح سبب تأخُرها لفاطمة. 

فاطمة: بدرية لِمَ تأخرتِ اليوم؟ 

بدرية: لا تشغلي بالكِ حبيبتي. 

اِنتهى العمل وحان وقت العودة إلى البيت. 

بدرية على عجلٍ: سامحيني فاطمة فسأذهب لديار العُمدة فزوجته تُريدُني في خَطبٍ ما. 

فاطمة: لكِ العُذر أُخيّتي.. أأنتظرُكِ؟ 

بدرية: لا فلرُّبما تأخرتُ فلتذهبي أنتِ ولتُبلّغي جدّتُكِ منّي السلام. 

فاطمة: حسنًا.. كما تُريدين. 

بِسْمِ اللَّه، توكلّتُ على اللَّه، ولا حول ولا قوة إلَّا باللَّهِ العليّ العظيم. 

من فضلكِ يا فاطمة.

استدرات لتَرى ثُمَّ سألته: مَن أنت؟.. وكيف عَرفت اسمي؟ 

وماذا تُريدُ منّي؟ 

أنا هشام ابن مراد بيه، وكيف لا أعرفُ مَن اِشتهرت بالأخلاقِ والتقوى والجمال، أُريدُ إخباركِ بأنَّي أُحبّكِ وأذوب عِشقًا فيكِ. 

فاطمة مُتلعثمة: ماذا؟.. ماذا تقولُ أنت؟

هشام: أقولُ ما يُخبرُني بهِ قلبي فلتسمعي نبضاتهِ مقتربًا منها. 

فاطمة غاضبة: فلتتقي اللَّهَ يا هذا. 

هشام: وماذا فعلتُ؟ .. أُريدُكِ زوجتي. 

فاطمة: ماذا.. ماذا قلت باللَّهِ عليك؟ 

هشام: قلتُ أُريدُكِ زوجتي. 

فاطمة: ولماذا لم تأتي لجدّتي طالما أردتني زوجتُك؟ 

هشام: سأفعل ولكنْ عندما أتأكد من حُبّكِ لي. 

فاطمة: وكيف يحدثُ هذا؟ 

هشام: عندما نتعرّف على بعض أكثر وأكثر. 

فاطمة: نتعرّف؟.. فأنت تعرفُني وأنا قد سمعتُ عنك.

هشام: ليسَ هذا ما قصدت. 

فاطمة: إذًا فماذا قصدت؟ 

هشام: أقصد أنْ نتأكد من ميل قلبينا لبعض وهذا سيحدث مع الوقت. 

فاطمة زاجرة: عن أيّ وقتٍ تتحدث هشام.. المعذرة فأنا لستُ كما تظن. 

هشام: لم أقصد ما وصلكِ ، قصدتُ أنْ نتقابل ولو مَرَّة كُلّ أسبوع؛ كي تتآلف نفسينا ونتعود على بعضينا. 

فاطمة تُفكّر. 

هشام: بماذا تُفكّري، لا تخافي فأنتِ حبيبتي ورَّوحي، وستكونينَ زوجتي، وأُمّ أبنائي. 

فاطمة في خجلٍ: باللَّهِ عليك لا تَقُل كلامٍ كهذا، فأنا لا أحتملهُ؛ إذ لم أسمعهُ من قبل. 

هشام: ستسمعينهُ من قلب حبيبك وتُحبّيه. 

فاطمة: دعني أذهب الآن.. أخشى التأخُر على جدّتي. 

هشام مُبتسمًا: حسنًا.. ولكنْ لا تُخبري أحدًا بشيءٍ قبلَ أنْ أتقدّم لكِ رسميًا. 

فاطمة: ولا حتّى جدّتي. 

هشام: ولا جدّتُكِ كي تتفاجأ حينَ أتقدمُ لكِ.. أفهمتِ؟ 

فاطمة: حسنًا إذًا.. سلام هشام. 

هشام: لا أردُ عليكِ. 

فاطمة: ولِمَ؟ 

هشام: قولي سلام حبيبي. 

فاطمة وقد اِحمر وجهُها: لا قبلَ أنْ تعقد عليَّ ثُمَّ أسرعت إلى البيت. 

مَرّت الأيَّام وأضحى هشام حبيبًا لفاطمة قُرابة خمسة أشهُر. 

هشام: فاطمة أُريدُكِ في موضوعٍ هام. 

فاطمة: خيرًا هشام. 

هشام: لا يُمكننا الحديث هُنا. 

فاطمة: ولِمَ هشام؟ 

هشام: لأنَّني سأُحدّثُكِ بخصوص زواجنا ومستقبلنا وأخشى أنْ يرانا أحد. 

فاطمة: إذًا ماذا سنفعل؟ 

هشام: تأتينَ معي إلى البيت. 

فاطمة بعدما زجرته: ماذا تقولُ أنت؟ 

أنا لن آتي بيتك إلَّا بعد العقد عليّ. 

هشام: أهكذا تظنينَّ بحبيبك الظنون؟.. سامحكِ اللَّهُ حبيبتي.

فاطمة: إذًا ماذا تقصد؟ 

هشام: أقصدُ أنْ نتحدّث سويًا عن مستقبلنا دونَ خوفٍ من أنْ يرانا أحد. 

فاطمة: وأُمّك وأبيك وأُختك. 

هشام: سيذهبون إلى بيتِ عمّي بالمركز في تمام الخامسة مساءً. 

فاطمة: وكم سنتحدّث نحن؟ 

هشام: نصف ساعة على الأكثر.. أكثيرٌ على مستقبلنا والتخطيط لهُ نصف ساعة مِنكِ؟ 

فاطمة: وبعدما نتحدّث؟ 

هشام: تذهبينَ لجدّتُكِ وبعدها بأيَّامٍ أتقدمُ لكِ. 

فاطمة: حسنًا.. فليوفقني اللَّهُ إنْ كانَ بهذا المشوارِ خيرًا. 

جَمَعَ أصحابه وأخبرهم بأنَّهُ قد وَفّى بوعدهِ قائلًا: أيُّها الشباب أُريدكم اليوم ببيتي فلقد أحضرتُ لكم ما تطيب لهُ أنفسكم.

سأل أحدهم: وماذا أحضرت يا هشام؟ 

هشام: ستأتي إلينا فتاة بعد نصف ساعة من الآن، أُريدُ أنْ نعيش حياتنا معها كما نُريد. 

سأل آخر: هشام أحقِّا ما تقول؟ 

أجل وسترونَ بأعينكم وتلمسون بأيديكم. 

وهُنا عَلا صوت رنين هاتفهِ الذكي اِستأذنَ منهم ليَرُدَّ عليه.. نعم أُمّي ماذا تريدين؟ 

الأُمّ: قد اِتصلتُ بك مِرارًا ولم تنتبه. 

هشام: أجل لأنّي مشغول. 

الأُمّ: فلتعلم أنَّ أباكَ قد تعب وتَمَّ نقلهِ للمستشفى.

هشام: أنا آتٍ إليكِ أُمّي. 

يا رفاق ستأتيكم الفتاة فلتفعلوا بها ما تشاءون كما تشاءون حتّى آتيكم لأفعل بها ما فعلتم، أمَّا الآن فسأذهبُ، البيتُ لكم والفتاة مِلككم. 

جدّتي ما بكِ؟ .. ألم تهدأ الحُمى بعد؟ 

الجدّة: الحمدُ لِلَّهِ على كُلّ حالٍ فاطمة. 

فاطمة: سأذهب لإحضار الطبيب. 

الجدّة: وعَلَاَم بُنيّتي؟.. لا تُتعبي نفسكِ فأنا بخير. 

لم تهتم فاطمة بكلام جدّتها وذهبت إلى الوحدة الصحيّة بقريتها وأحضرت الطبيب الذي أمر بنقلها إلى المستشفى؛ لتلقي الرعاية الصحيّة هُناك، ورافقتها فاطمة. 

ذهبَ هشام إلى المستشفى وما أنْ وصلَ حتّى سألتهُ والدته: أين أُختك؟

هشام: لا أدري أينَ هي.. أليست هُنا؟ 

الأُمّ: لا ليست هُنا، فحينَ لم ترُد على هاتفك أرسلتها إلى البيت؛ كي تجدك. 

هشام مذعورًا: ماذااااااااا.. البيت؟

ثُمَّ ذهبَ مُسرعًا بقيادة سيارتهِ حتّى وصلَ، فَتَحَ الباب ودلفَ ليلقى المفاجأة؛ أُخته مُلقاةٍ على الأرض غارقةٌ في دمائها، بعدما فَعَلَ بها أصدقاءهُ ما يشاءون كما أمرهم هو.. أخذ يصرخ ويصرخ ويصرخ حتّى أدركهُ بعض الرجال، فغطوا أُختهُ ورافقوهُ في الذهاب بها إلى المُستشفى، وهُناكَ عَلِمَ بوفاتها. 

مرّت الأيَّام وعَلِمَت فاطمة أنَّ منَع اللَّهِ عطاء؛ فقد أعطاها الستر وحفظ الشرف حينَ قَدّرَ منعها عن موعد هشام، كما أيقنت بأنَّ الحُبّ الذي يبدأ بغيرِ رضا اللَّه مُنتهاهُ الحسرة والندم، فَحَمِدَت ربِّها كثيرًا على ما قَدّر.