أنهتْ عملها في إحدى الأسواق التُجارية، التي تبعُد عن بيتها ببضعِ محطّاتٍ من مترو الأنفاق، وشرعتْ في اِستقلالِ وسائل المواصلات المُتنوعة، كَعادتها اليومية في رحلتها للعودة إلى البيت.
تقضي شوطًا في التنَّقُلِ بينَ عرباتِ المواصلات العامّة حتّى تَصِلَ ذلكَ الحيّ الشعبي بمنطقةِ فيصل بمُحافظةِ الجيزة.
نزلتْ من آخرِ عربة مواصلات، لتُكمِلَ طريقها سيرًا على الأقدامِ مقدار ساعة من الزمن؛ نَظرًا للإزدحام الشديد الذي يُميِّزُ تلكَ المنطقة عن غيرها من المناطق، اِزدحامٌ فاقَ الحدود، لإغلاقِ شارع الهرم لإتمامِ أعمال محطّة مترو الهرم، لكنَّهُ زادَ كثيرًا جدًّا حينَ حَلَّ الأشقاء السودانيين ضيوفًا على أرضِ مصر، مصر المِضيافة الأبيّة أُمّ الدُّنيا.
أخذتْ تلهث من شِدّةِ الطقس الحارّ، نظرتْ أشمأ منها فوجدتْ مقهى بلدي قد فتحَ قبلَ ميعاده، تهللت أساريرها وأسرعتْ لتسألَ صاحب المقهى بعض الماء، قامَ من جِلستهِ على الفورِ ليأتي لها بزجاجةِ مياهٍ بارد سعة لتران.
لمعتْ عيناها لرؤيةِ الماء البارد، أخذتْ تشرب حتّى اِرتوتْ وقد تبّقى رُبع لتر من الماءِ تقريبًا، شكرتْ صاحب المقهى، وأكملتْ سيرها.
ما هذا الطقس الحارّ؟
أكُلّ هذهِ حرارة في فصلِ الربيع؟!
إذًا أينَ الربيع؟
لأحمي رأسي بحقيبةِ يدي المُهترئة هذهِ، ما هذا الجمعُ الغفير، وعلامَ يصطفونَ هكذا؟
اِقتربتْ لترى بعض السودانيينَ ينتظرونَ دورهم في شراءِ أكلاتٍ سودانية من شقيقٍ لهم قامَ بإفتتاحِ مطعمٍ خَصّصهُ لهذا الغرض.
عجبتُ لكِ يا أرض، قد أضحى الضيوفُ مُلّاكًا بعدَ طردِ المُستأجرين المصريين من قِبلِ أصحاب العقارات!
أينَ الضرائب من مالِك عقارٍ يقوم بتأجيرِ شقتهِ لبعضِ الأجانبِ مُقابل ألوف الجُنيهات، في حينَ أنَّهُ يطرد المصري لعدم تمكُنهِ من دفعِ ما يطلبهُ من مال.
أينَ القانون من مُلّاك العقارات المُستغلّين؟
حمدًا لكَ يا رَبّي أنْ أنعمتَ عليَّ بعدمِ الإنجاب، فبالكادِ نستطيع شراء الخُبز وبعض أقراص الطعمية، ورُّبما زادتْ علينا النِعَم فأبتعنا طبقًا من الفول المدمس، وهذا بالطبعِ هو صافي مُرتبنا أنا وزوجي بعدَ خصمِ أُجرة المواصلات، ودفع الإيجار، والفواتير، دونَ أنْ نبتاعَ بعض الشحم، أو حتّى نُرّفه على أنفُسنا بشراءِ بعض العنب.
غريبةٌ أنتِ يا دُّنيا!
فها آنذا لم أُنجب لكنَّ حياتي صعيبةٌ للغاية، ففي هذا الزمان عليكَ بالعملِ بجُهدٍ مُضاعف ونفسٍ صبورة؛ كي تستطيع أنْ تكفي نفسكَ حاجتها من توفيرِ مسكنٍ على قدرِ سعتك، وكذا الطعام على قدرِ سعتك، ورُّبما داهمَ الغلاء الفاحش سعتكَ فأمضيتَ بعض أيَّام الشهر صومًا عن الطعامِ الذي لم يَعُد في اِستطاعتكَ شراءه.
وذاكَ جارٌ لنا قد أنجبَ طفلًا واحدًا مُنذُ ثمانيةَ عشرَ عامًا ولم يُكرّر هذهِ التجرُبة؛ نَظرًا لضيقِ حاله، والآن قد أوشكتْ إمتحاناتُ الثانوية العامّة على البدء في التزامُنِ مع خُطّة الدولة في تخفيفِ الأحمال، لذا كُلّما اِنقطعَ التيار الكهرُبائي عن الحيّ صرختْ زوجُ جارنا باكيةً مُستقبل ابنها.. صَدَقَ من قال: "مَن رأى مُصيبة غيرهِ هانتْ عليهِ مُصيبته".
أوقفتها فتاةٌ لتعرضَ عليها بضاعتها، قلّبتْ البضاعة بنظرها ثُمَّ شكرت الفتاة وأكملتْ سيرها.
مُستحضرات تجميل، وماذا تفعلُ مِثلي بمِثلها؟
فقد شَحب الوجه، وتساقطَ الشعر من جذوره، واصفّرت البشرة؛ لفقرِ الدّم الذي أصابني نظيرَ سوء التغذية، أو قُلْ لقِلّة التغذية لنكونَ صادقين، ماذا عساي أنْ أفعلَ بطلاءِ الشفاه، وكريمات البشرة المُتنوعة؟
فبالكادِ نأكل وندفع الإيجار والفواتير أنا وزوجي، زوجي آهٍ عليكَ زوجي، قد أصابهُ المرض فتحامَلَ على نفسهِ وباشرَ عمله، لعدمِ اِمتلاكنا ثمن الكشف الطبي!
وصلتْ شارعها الضيّق، صعدتْ السُلّم المكسور بعض درجه، أخرجتْ مِفتاحها من درعها، دسَّتهُ بثُقبِ الباب ليُفتحَ لها.
دلفتْ شقتها الصغيرة المكوّنة من غُرفةِ نومٍ وصالة ودورة مياه ومطبخ، رُغم ضيقها إلَّا أنَّها تحتويها وزوجها بعدَ عناءِ العمل، وبهدلة المواصلات.
بدّلتْ ثوبَ خروجها بثوبها البيتي القديم، وراحتْ لتُرّتبَ الشقة قبلَ عودة زوجها من عمله.
حلَّ المساء وعادَ زوجها ومعهُ الفول المدمس، ليتناولا وجبة الغداء، ومن بعدها يتسامرانِ بحضرةِ كوبٍ من الشاي يقتسمانهِ بينهما، ثُمَّ يذهبانِ للنوم ليستيقظا باكرًا ويذهبا لعملهما، على أملٍ أنْ يكونَ غدًا أجمل.. وهكذا هي حياةُ مَن تملكهُ ظروفهُ لا مَن يملكُ هو ظروفه.