أخذَ المِجرَفة وراحَ ليدُّسها، فما وجدَ غير بؤيرة، ألقاها بِها وعادَ ليتأكد أنَّ الجُثّةَ التي قبرها مخفيةٌ عن الأنظار، ثُمَّ عادَ لبيتهِ لاهثًا يتصبَّبُ عرقًا، جلسَ بغُرفتها التي كانتْ تسكنها حتّى سويعاتٍ فائتة، نَظَرَ لصورتها الموضوعة على المِنضدةِ الصغيرة بجانبِ سريرها، أمسكها وأخذَ يبكي على ما فعلهُ بها حتّى رنَّ هاتفها المحمول، تفحصّهُ فوجدَ يحيى قد اِتصلَ بها عِدّةَ مرّات، وضعَ الهاتف جانبًا حتّى يُفكّر فيما سيقولهُ له، لحظاتٍ وشعرَ بدوارٍ أفقدهُ توازنهُ فسَقَطَ مَغشيًا عليه.
لم يَطمئنّ يحيى لعدم رَدّ نبيلة على اِتصاله، حاولَ الإتصال بأبيها لكنَّ هاتفهُ مُغلق، هاتفَ أُمّهُ وطلبَ منها أنْ تذهبَ لزيارةِ نبيلة ليطمئنَّ قلبهُ عليها.
وبعد نصفِ ساعة كانتْ أُمّ يحيى قد وصلتْ هي وأخيهِ هيثم إلى بيتِ نبيلة، أخذا يطرقانِ الباب، لكنَّ أحدًا لم يفتح لهما، شَدَّدا الطرق ولكنْ دونَ جدوى، خرجا من البيتِ وذهبَ هيثم إلى أمن التجمُّع السكني، بينما أُمّهُ تنتظر في حديقة البيت.
لحظاتٍ وكانَ بعض أفراد الأمن قد أتوا، حاولوا فتح الباب لكنَّهم لم يُفلِحوا، فقاموا بكسرهِ بُغية الإطمئنان على نبيلة ووالدها المُهندس حسين.
كسروا الباب ودلفَ الجميع، أسرعتْ أُمّ يحيى لغُرفةِ نبيلة، فصاحتْ حينَ لم تجدْها، ووجدتْ أباها ساقطًا على الأرضِ فاقدًا وعيه.
حملهُ هيثم وذهبَ بهِ إلى المُستشفى بسيارتهِ ولم ينتظر الإسعاف، بلّغَ أفراد الأمن مُدير أمن التجمُّع السكني، فجاء ليُحقِّقَ في الأمر.
أُدخِل المُهندس حسين العناية الفائقة؛ إذ داهمتهُ غيبوبة السُكري، وظَلَّ على إثرها غائبًا عن الوعي عِدّةَ أيَّام.
كانَ مُدير الأمن _الخاصّ بالتجمُّع السكني_ قد حقَّقَ في الأمرِ فلم يَجدْ أدنى شُبهة جنائية، غير أنَّ نبيلة رُّبما تكون قد سافرتْ لوالدتها بمُحافظةِ الغربية.
هاتفتْ أُمّ يحيى رانيا والدة نبيلة، وسألتها عن ما إذا كانتْ نبيلة قد زارتها أم لا، فأجابتها رانيا بالنفي، وسألتْ أُمّ يحيى عن ابنتها الغائبة، وأينَ ذهبتْ، وما الذي حَدَثَ لها؟
لم تستطع أُمّ يحيى أنْ تُخفي حُزنها على غيابِ نبيلة فانهارت باكية لرانيا عبرَ الهاتف، فما كانَ من رانيا إلَّا أنَّها اِستأذنتْ زوجها كريم في السفرِ إلى القاهرة؛ للإطمئنانِ على مصير ابنتها الوحيدة.
لم يدعها تذهب بمُفردها، فجاء معها للبحثِ عن نبيلة التي يُعِدَّها ابنته، وليستْ ابنةَ امرأتهِ رانيا.
بحثوا عنها عندَ صاحباتها، وعندَ الأقرباء، والجيران القُدامى في مِنطقة فيصل، ولكنَّهم لم يُوّفقوا في العثورِ عليها، قاموا بعملِ مَحْضَرٍ بقسمِ شُرطة الشيخ زايد، يُفيد بتغيّبُها عن البيتِ مُنذُ أيَّام، قامَ ضُباط الشرطة بعملِ التحرّياتِ اللازمة بخصوصِ الواقعة لكنَّهم لم يجدوا لها أدنى أثر، ففضّلوا اِنتظار المُهندس حسين حتّى يَفيقَ من غيبوبتهِ ويسألوهُ عنها.
مَرَّ أسبوع وقد جاء يحيى بعد أنْ أخذَ إجازة من عملهِ بإحدى دول الخليج العربي، ليعلمَ ما الذي جرى لحبيبتهِ وزوجهِ نبيلة، التي لم يَدخُل بِها بعد.
فاقَ حسين من الغيبوبة، وخرجَ من العناية الفائقة، ليُقيمَ بغُرفةٍ أُخرى، بعد أنْ أَمَرَ الطبيب المُعالِج ببقائهِ تحت المُلاحظة.
عَلِمَ الضابط سعيد بتحسُّنِ حالتهِ فجاء يسأله.
عَرَّفَ بنفسهِ ثُمَّ أردف: حمدًا للَّهِ على سلامتك بشمُهندس.
حسين: سَلّمكَ اللَّهُ حضرة الضابط.
الضابط سعيد: أودُّ اِخباركَ بأنَّ الدكتورة نبيلة ابنتك لم يُعثر لها على أثر، ولا نعلم إنْ كانتْ مُتغيّبة أم حَدَثَ لها مكروه، لا قَدّرَ اللَّه، وقد قامتْ طليقتُكَ السيدة رانيا بعملِ مَحْضَرٍ يُفيد بتغيّبُها، وعلى أساسهِ نُجري تحرّياتنا ونُحقَّق في الأمر.
أخذَ حسين يبكي ويُنادي على نبيلة في حالةٍ يُرثى لها، حتّى جاء الطبيب المُعالِج، وطلبَ من الضابط سعيد بألَّا يُكثِرَ عليه.
اِستجابَ الضابط سعيد لطلبِ الطبيب، ثُمَّ سألهُ عن آخرِ مرّة رأى فيها نبيلة.
أجابَ حسين بأنَّها ذهبتْ إلى صيدليتها كَالعادة.
سألهُ الضابط سعيد عن ما إذا كانتْ قد أخبرتهُ بشيءٍ آخر.
أجابَ حسين بالنفي.
سألهُ الضابط سعيد: هل الدكتورة نبيلة مُعتادة ترك هاتفها بالبيتِ قبلَ الخروج منه؟
تلعثمَ حسين قبلَ أنْ يُجيب: لم أُركز مع هاتفها كثيرًا حضرة الضابط، ثُمَّ عادَ ليبكي من جديد.
أغلقَ الضابط سعيد التحقيق وغادرَ المُستشفى.
مَرّت الأيَّام وعادَ المُهندس حسين لعملهِ بعدَ فترةِ النقاهة التي قضاها، وعادتْ رانيا مع كريم زوجها إلى بيتهما بالغربية، بينما يحيى محزون القلب لم يستطع الذهاب إلى عملهِ فمَدَّ اِجازته.
شعر الضابط سعيد بأنَّ حُسينًا رُّبما يكون لهُ دخل في اِختفاءِ نبيلة، لكنَّهُ لم يستطع تحديد ماهية دورهُ فيما حَدَثَ لها، فظَلَّ يبحث عن طرفِ خيطٍ يُفيدهُ في التحقيق، حتّى ساقَ القدر إليهِ عِمارة، القائم على شؤون مكتب أبيها بالشركة التي يعمل بها.
اِستأذنَ عِمارة في الدخول، أُذِنَ لهُ فدلف، عَرَّفَ بنفسه، رَحَّبَ بهِ الضابط سعيد، وطلب
لهُ مشروب الشاي.
أخبرهُ عِمارة بأنَّهُ قد عَلِمَ بإختفاءِ الدكتورة نبيلة، لذا جاء ليُدلي برأيه، رُّبما يُفيد ولو بعض الشيء.
أخبرهُ أنَّهُ قد شاهدَ نبيلة تُهددُ أباها بأمرِ قطعةِ الأرض التي غصبها صاحبها، أخذَ حسين يُطمئنها بأنَّهُ سيُنهي أمرها ويردّها لصاحبها، لكنَّها لم تهدأ وتابعتْ: يبدو أنَّكَ نسيتَ كيفَ ربّتني أُمّي أبي!
لكنْ لا عليك، ستعلمُ أنَّها قامتْ بواجبها نحوي على أكملِ وجه، ليسَ كأنتَ أبي، ستعلم حينَ أُبلِغُ الشرطةَ بما تفعلهُ سرًّا تحتَ مُسمّاكَ الوظيفي، وقد أمهلتُكَ كثيرًا أبي ونهيتكَ ولكنَّكَ لا تنتهي، إذًا لتُحاسَب على فِعالكَ التي عَمِلتها بمحض إرادتك.
ثُمَّ أكملَ عِمارة: كانَ هذا قبلَ أنْ تختفي بأسبوع، وكانتْ قد وعدتْ ابنتي فاطمة بالعملِ معها خلالِ هذا الشهر، لكنَّ القدرَ لم يُمهلها لتُوفي بوعدها، ثُمَّ بَكى.
لم يسألهُ الضابط سعيد أيّة أسئلة، فكُلّ ما يَشغل بالهُ الآن هو البحث والتحرّي أكثر عن المهندس حسين.
عَلِمَ حسين ذات يوم أنَّ الضابط سعيد قد تحرّى عنهُ في عملهِ القديم، ولا زالَ يُجري تحرّياتٍ عنهُ في مُحيطِ عملهِ الحالي، ومحلّ إقامتهِ السابق والحالي، بل واللاحق الذي سينقل إليهِ إقامتهُ بعدَ يومان.
فَكَّرَ حسين كيفَ ينفي شُبهة اِشتراكهِ في إخفاءِ نبيلة، فَكَّرَ وفَكَّرَ وفَكَّر حتّى هداهُ تفكيرهُ الشَّيطاني لعملٍ خبيث.
قامَ بشراءِ جُثّةٍ لفتاةٍ في مِثلِ عُمر ابنته، عن طريقِ أحد معارفهِ بإحدى المشرحات، ثُمَّ وضعها على سريرِ نبيلة وفي غُرفتها، بعد أنْ أخبرَ أمن التجمُّع السكني بالعثورِ عليها، وبعدها قامَ بإشعالِ النار في غُرفتهِ المُجاورة للمطبخ، ثُمَّ بغُرفةِ نبيلة، وأغلقَ الأبواب والنوافذ بإحكامٍ حتّى غدتْ غُرفة نبيلة كُتلة من اللهب.
حينها فتحَ النوافذ ليخرجَ منها مُستصغرِ الشرر، وفتحَ الأبواب وأخذَ يستغيث علَّ أحدهم ينجده.
هَبَّ أفراد الأمن في نجدته، وحاولوا مِرارًا اِطفاء الحريق الذي كانَ قد اِلتهمَ الطابق الأرضي، لكنَّ النارَ تزداد اِشتعالًا، فقاموا بطلبِ المطافئ، وبلّغوا قسم الشرطة بالواقعة، كما طلبوا الإسعاف.
أتتْ المطافئ فأطفأتْ ما استطاعتْ إطفاءهُ بعد أنْ أضحى البيت رُمادًا، وتَمَّ نقل الجُثّة المُحترقة إلى المُستشفى عن طريقِ الإسعاف، بينما حسين قد نقلهُ أحد السُّكان بسيارتهِ الخاصّة للمُستشفى.
حَضَرَ الضابط سعيد وأثبتَ الواقعة بمحضرٍ رسمي، وسَمِعَ من الشهود ثُمَّ ذهبَ إلى المُستشفى.
خَرَجَ الطبيب ليُخبرَ حسين المُتِّكئ على أحد المُمرضين أنَّ ابنتهُ قد فارقتْ الحياة بعد أنْ تفّحمتْ جُثّتها، ولم يتبَّقى منها سوى بعض الرُفات.
انهارَ حسين من البُكاء، ثُمَّ طلبَ من الطبيب سُرعة الإجراءات بخصوصِ تصريح الدفن، كي يُواري رُفات نبيلة التُراب.
اِنقضتْ بضع ساعاتٍ وقد وارى حسين ابنتهُ (المُزوّرة) التُراب.
لم يَكُن يعلم حسين أنَّهُ بفِعلتهِ النكراء قد قامَ بفتحِ ملفِ التحقيقاتِ من جديد، فالضابط سعيد قد اِستدعاهُ عِدّةَ مرّاتٍ لسؤالهِ عن الكيفيةِ التي عثرَ بها على الفقيدة، لكنَّهُ اِستطاعَ التمّلُص من الأسئلة بطريقةٍ أخبرهُ بها مُحاميهِ العتيق.
مَرَّ عامٌ على غلقِ قضية نبيلة، وقد باعَ أبيها قطعة أرضٍ يمتلكها لإحدى الشركات العقارية، بأضعافِ ثمنها، نَظرًا لموقعها المُتمّيز والذي جعل الشركة تُسارع في شرائها.
بدأتْ الشركة في تنفيذِ بعض مشروعاتها على الأرضِ فورَ اِستلامها، حتّى إذا ما وصلوا لبعض العُمق وجدوا رُفاتًا قد تحلل، يبدو عليهِ أنَّهُ لجُثّةِ فتاة، أخبروا قسم الشرطة التابعة لهُ الأرض.
جاءتْ قوات الشرطة بِصُحبةِ فريقٍ من البحثِ الجنائي، تَمَّ عمل اللازم ثُمَّ نُقلتْ الرُفات إلى الطب الشرعي، لفحصها ومن ثَمَّ بَيان سبب الوفاة.
عَلِمَ حسين بالواقعة فجهَّزَ أوراقهُ للسفرِ خارج البلاد، لكنَّ نتيجة الطب الشرعي قد أعاقتْ سفرهُ بعد ظهورها، وبَيان أنَّ الرُفات لابنتهِ نبيلة، ويعود سبب الوفاة إلى كسرٍ بقاعِ الجُمجُمة أدى لنزيفٍ داخلي أفقدها حياتها.
كما تَمَّ العثور على مِفتاحٍ لإحدى أدراج مكتب حسين، قد سقطَ منهُ وهو يُواريها الثرى، تَبيّنَ هذا بعد رفع بصماته.
وقد اِستدعتْ النيابة العامّة حسين للمثولِ أمامها، ثُمَّ وُجِهَتْ إليهِ تُهمة قتل ابنتهِ نبيلة، حاولَ نفي ما نُسِبَ إليه، لكنَّهُ انهار واعترفَ بعدما رأى المِفتاح الذي يبحث عنهُ مُنذُ عام.
ثُمَّ اعترفَ بالواقعة، وأنَّهُ قد دفعها بقوّةٍ أثناء مشادّة كلامية بينهما، فارتطمتْ رأسها بالحائط وانفجرَ الدم من رأسها، حاولَ إنقاذها لكنَّها لفظتْ أنفاسها الأخيرة داخل السيارة، وقبلَ أنْ يصلَ بها إلى المُستشفى، فما كانَ منهُ إلَّا أنْ قبرها في أقربِ مكانٍ من أراضيهِ التي يمتلكها، فكانتْ قطعة الأرض التي عُثر عليها بها.
أمَّا عن الجُثّةِ المحروقة، فقد اِعترفَ بأنَّهُ قد فعلَ هذهِ الفكرة بُناءًا على نصيحةِ صاحبهِ يعقوب، وهو أيضًا مَن يَسَّرَ لهُ أمرها، سألوهُ عن محلّ إقامتهِ فأخبرهم.
ذهبوا إلى حيثُ أخبرهم حسين عن محلِّ إقامةِ يعقوب لكنَّهم لم يجدوه، فقد سافرَ مُنذُ شهرين إلى إحدى الدول الأوروبية، بعدما عَلِمَ بفتح ملف التحقيقات ثانيةً.
كما اِعترفَ حسين بالأعمالِ السيئةِ التي كانَ يفعلها، من تقاضي الرِشوة، وغيرها من قضايا الفساد، وهذا ما سَبَّبَ الخِلاف بينهُ وبينَ نبيلة، بل وكانَ سببًا في وفاتها.
اِستأذنَ حسين في الحصولِ على المِفتاح، وفتح الدرج الذي يحوي ما يُدينهُ من ملفاتٍ بمكتبه.
تَمَّتْ إحالة أوراق حسين إلى فضيلةِ المُفتي بعد ثبوت الأدلة ضده، بالإضافةِ لإعترافاته.