في قديمِ الزمان وقبلَ اختراع الكهرُباء؛ حيثُ الظلام الدامس بإستثناء هذهِ القرية المُشّعة بالنوران، والفيّاضة على مَن حولها من القُرى بالنورِ والهِداية؛ نتيجة تنّصف نَّجمة لهذهِ القرية وبالقُربِ من أهلها ومَن اهتدى بها، حتّى ظنَّ النَّاس أنَّهم قادرونَ على الإمساكِ بها.
كانتْ النَّجمة وضَّاءة في عالَمٍ يسودهُ الظلام، مفخرةٌ للقرية التي هي بها والقُرى المُجاورة، ظلّتْ هكذا حتّى لاحظَ الغُلام أنَّ إضائتها تَخفُتْ شيئًا فشيئًا، فهرعَ إلى أهلِ القرية ليُخبرهم ولكنَّهم لا يُبالون؛ فكُلٌّ انشغل بحياتهِ لا يُريدُ أنْ يُلقي بالًا لأيّ شيءٍ حتّى وإنْ كانتْ النَّجمة التي تُضيء حياتهم.
ذهبَ الغُلام إلى جدّهِ مهمومًا فسألهُ الجدّ: ما بكَ يا ولدي؟
الغُلام: حزينٌ على أهلِ القرية وغضبانٌ منهم يا جدّي!
الجدّ: ولِمَ؟
الغُلام: حزينٌ عليهم لأنَّهم أهملوا النعمة التي مَنَّ اللَّهُ عليهم بها وفضّلهم بها على سائر القُرى، وغضبانٌ لأنَّهم لا يُلقونَ لي بالًا عندما أُحدّثهم بأنَّ ضوءها يَخفُتْ شيئًا فشيئًا.
الجدّ: لا إلهَ إلَّا اللَّه، وهل خَفَتَ ضوءها بُنيّ؟
الغُلام: أجل، جدّي وقد رأيتُ ذلكَ بعيني ولكنْ لا أحد ينتبه.
الجدّ: هَدئ من روعكَ بُنيّ، آهٍ يا ولدي _سُبحانَ الحيّ الذي لا يموت_ فقد شاهدتُ هذهِ النّجمة مُذ كنتُ طفلًا وكانَ ضوءها شديدًا فظننتُ أنَّهُ لن يخفت أبدًا، فحدّثني جدّي إذ كنتُ يتيمًا كما أنتَ الآن وفي مِثل سِنّك: أي بُنيّ إنَّ اللَّهَ _عزوجل_ خَلَقَ الخلق وقدّرَ الأقدار وجعل لكُلِّ شيءٍ نهاية، فهذهِ النَّجمة الوضَّاءة قد يَخفُتْ ضؤءها نوعًا ما، وأرجو من اللَّهِ أنْ يحفظكَ بُنيّ ويرحمني إذ كُنتُ ميّتًا، بُنيّ عندما يَخفُتْ ضوء النَّجمة فأنظر إلى أفعالِ أهل القرية، فقاطعتُ جدّي حينها: وأهل القُرى المُجاورة؟
فقال جدّي: بُنيّ أهل القُرى المُجاورة وإنْ بَعُدتْ بِهم المسافات فإنَّ أفعالهم تُؤثر بالفِعلِ على ضوءِ النَّجمة، ولكنَّ الأهم والأَولى أهل القرية ذاتها، تذكّر بُنيّ الأَهم والأَولى مَن اِستثناهم اللَّهُ بهذهِ النَّجمة؛ فلا بُدَّ وأنْ يُحافِظوا على هذا التكريم الربَّاني، فقاطعتُهُ ثانيةً: جدّي وكيفَ يُحافِظوا عليه؟
الجدّ: جُزيتَ خيرًا بُنيّ عن هذا السؤال.
يُحافِظوا عليهِ من خلال إلتزامهم بأفعالهم وأقوالهم، والتشبُث بعوائدهم وتقاليدهم، وألَّا يُغيّروا مبادئهم وإنْ تغيرتْ الدُّنيا بأسرها لا القُرى المجاورة فقط، تذكّر هذا بُنيّ ولا تنساهُ أبدًا.
آهٍ يا بُنيّ فقد ذكّرتني بجدّي الغالي _رِحِمَهُ اللَّه_ وهانذا وقد عِشتُ هذا اليوم الذي وصفهُ لي وكأنَّهُ معنا اليوم.
الغُلام: ماذا تعني بهذا الكلام أجبني يا جدّي أجبني؟
الجدّ: على رسلكِ بُنيّ، عليكَ بمُراقبةِ أفعال النَّاس وأقوالهم وانظر بُنيّ إنْ كانتْ قد تغيّرت مبادئهم، وتأمل النَّجمة حينها سترى الحقيقة بأُمّ عينك.
الغُلام: سأفعل ما أردتَ جدّي.
ذهب الغُلام إلى حيثُ النَّجمة فرأها وقد خفُتَ ضوءها أكثر ممّا كانتْ عليه، وقد شَعَرَ ببعض الظلام رُغم وجود النّجمة.
وفي الصباح شَرَعَ في مُراقبةِ أهل القرية فرأى منهم مَن ثَبُتَ على مبدئهِ في حين قد غيَّره غيره، ورأى مَن تجَّلدَ بغير جلدته، ورأى مَن بدَّل عوائده بعوائد غيره، ورأى منهم مَن.... ومَن..... ومَن.........
وتأمل النَّجمة فرأها وقد بَعُدَتْ عنهم وخفتَ ضوءها، فأخذ يُنادي: يا أهل القرية يا مَن فُضّلتم على غيركم بالنَّجمة.. يا أهل القرية هَلمَّ إلىَّ.
فأجتمعَ النَّاس حولهُ وسأل سائلٌ منهم: ما الخطبُ يا غُلام؟
عَلاَمَ جمعتنا؟
الغُلام: عمَّاهُ قد بَعُدتْ النَّجمة وقد أنذرنا اللَّهُ _عزوجل _ بضؤها الخافت قبلَ أنْ تَبْعُدْ عنَّا ولكننا لم نتنبه.
السائل في لا مُبالاة: وما عسانا أنْ نفعل؟
الغُلام: بإمكانكم الكثير لتفعلوهُ فابدأوا ب....... السائل مُقاطعًا: تُكلّمُنا وكأنَّنا نَحنُ الذين خفتنا ضوءها، ليسَ هذا فحسب؛ بل وأبعدناها، زِنْ ما تقول أيُّها الغُلام.
الغُلام: أجل عمَّاهُ أنتم مَن فعلتم هذا بتغيير مبادئكم، وتبديل عوائدكم، وتَجَلُّدُكم بغير جلدتكم، وحقدكم على بعضكم وبُغضكم لبعضكم، وانتهاككم لحُرماتكم فيما بينكم ومِن ثَمَّ إبتعادكم عن منهج اللَّه، أليسَ ما فعلتموهُ ومازلتم تفعلونهُ كفيلًا أنْ يخفتَ ضوء النَّجمة ويبعدها، بل ويرفعها عنَّا رفعًا وهذا ما أخشاه؟
هاجَ أهل القرية على الغُلام وقال قائلهم: وماذا تُريدنا أنْ نفعل وقد تغيّرَ النَّاس حولنا؟
أكنتَ تُريدنا أنْ نظلَّ كما نحن؟
الغُلام: وما دخلكم بغيركم أنتم أنتم وهُم هُم، دعونا من الماضي، الآن يُمكنُنا أنْ نُعيد النَّجمة التى تُضيء حياتنا إلينا من جديد فما زالت الفرصة بأيدينا، لنبدأ بالتوبةِ عن ما لا يُرضي اللَّه، ولنُحافظ على مبادئنا ولنلتزم بعاداتنا الأصيلة وتقاليدنا النبيلة، ولنتصافى فيما بيننا، وليُحافظ كلٌّ منَّا على حُرمةِ أخيهِ كحُرمتهِ لنفسه، ولنَصُن أعراضنا، وليَسُد السلام بيننا، ولتغمر المحبة قلوبنا، ولتغشى الرحمة صغارنا، وليكن الوقار هو أساس معاملتنا مع كبارنا إذا فعلنا هذا سنُصبح أُسوة يَقتدى بنا غيرنا لا نقتدي بغيرنا وإن كان أسوأً لا أُسوة.
هذي يدي فلنُعاهدُ اللَّهَ على ما نَوينا هيَّا أهل القرية فالوقتُ ليسَ كافيًا لنُضيع بعضه، هيَّا فاللَّهُ يُحِبُّ التوّابين، هيَّا لنُعيد النَّجمة قبلَ أنْ يَحِلَّ الظلام، تفرّقَ أهل القرية وتركوا الغُلام وحدهُ وذهبوا ليكيدوا لهُ المكائد.
ذهبَ الغُلام إلى جدّهِ فرأهُ يبكي بحسرة، فتخوف عليهِ وسأله: ما الخطبُ يا جدّي أجبني فقد أفزعني مشهدُك؟
الجدّ: أبكيكَ ولدي وبضعة قلبي وفلذة كبدي.
الغُلام في دهشة: أتبكيني وأنا معكَ وأجلس بجوارك جدّي؟!
الجدّ: أجل، فانتَ الآن معي أمَّا بعد ذلكَ فلا أدري أتكون معي أم لا؟؟
الغُلام: أتيتُكَ جدّي وقد ظننتُ أنَّكَ تُخفف عنّي ما لاقيتُ من أهل القرية، آآآهٍ ولكنْ أخبرني بما جعلكَ تُبكيني جدّي؟
الجدّ: رأيتُ جدّي وقد اكتسى بحُلّةٍ بيضاء، والماء يقطُر من لحيتهِ وقد أوقفك بجانبه، ونظر إلىَّ قائلًا: أي بُنيّ، أتذكُرُ حديثي لكَ عن النَّجمة ودعوتي بحفظِ اللَّهِ لكَ فأردفتُ: نعم جَدّ، فأكمل: أنتَ بضعة قلبي وهذا الغُلام بضعة قلبك، ودِّعهُ فسيجمعني اللَّهُ بهِ عمّا قريب، ولكَ الصّبر والإحتساب.
واستيقظتُ من نومي على هذهِ الرؤيا لعِدّةِ مرّات، فتيّقنتُ أنَّك ذاهبٌ فبكيتُ على الفراق.
الغُلام: هدئ من روعكَ جَدّ فأينَ أذهب وأتركك؟
أنا معكَ رُّبما ما رأيتَ أضغاثُ أحلام، آهٍ يا جدّي على ما حدث اليوم!
الجدّ: وما الذي حدث؟
أخبرَ الغُلام جدّهُ بما حَدَثَ ففزع الجدّ وقال: إنَّها رؤيا وليستْ أضغاثُ أحلام، فما رأيتُ جدّي إلَّا وتحقق ما رأيت، إصغ إليَّ بُنيّ فإنَّي ناصحك: لا تُدهِن فهؤلاء خانوا ربَّهم إلَّا مَن رحم رَبّي، لا تُغيّر مبدئك مهما حَدَثَ لك، ولا تخفض صوت الحقّ ولو أعرضوا عنكَ أجمعين، ولا تقبل الهوان ولا تَرضى الذُلّ، وإيَّاكَ إيَّاكَ ثُمَّ إيَّاكَ أنْ تُغضِب الخالق إرضاءً للمخلوق "فلا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق".
بُنيّ إنَّكَ إنْ قُتِلتَ وأنتَ تُدافع عن الحقّ الذي هو اسم اللَّه مُطيعًا للَّهِ ولأمر سيدنا رسول اللَّهِ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ _ مُحافظًا على دينُك فأحتسبُك عند اللَّهِ عبدًا صالحًا.
قبَّلَ الغُلام رأس جدّهِ وذهب إلى منتصف القرية، وقد أتى الليل بسدولهِ ومازال ضوء النَّجمة خافتًا ونادى: يا أهل القرية يا مَن لم تَرضَونَ المكرمة، يا مَن رضيتم بالقِلة والذِلة والضعف والوان، يا مَن استقويتم على بعضكم، يا مَن انتهكتم حُرماتكم بذواتكم، ويا مَن دنَّستم أعراضكم، هَلمَّ إلى اللَّهِ قبلَ الحسرة الندامة، فجاء أهل القرية يشتاطونَ غضبًا وحِقدًا على الغُلام ظنَّ أنَّهم لبُّوا النداء فابتسمَ لهم، فلّما دنوا منهُ اختطفتهُ أيديهم وأبرحوهُ ضربًا حتّى الموت.
لم يتركوهُ إلَّا وهو غارقٌ في دمائهِ ولأوّل مرّة ينطفئ ضوء النَّجمة، بل وتُرفَع إلى السماءِ كما ارتفعتْ رَّوح الغُلام الزكية، ويُغشى الظلام الدامس القرية ومَن حولها.
ناداهم الغُلام الصالح كثيرًا ولكنْ "لقد اسمعتُ لو ناديتُ حيًّا ولكنْ لا حياةَ لمَن تُنادي"، أتتهم الإنذارات تلو الإنذارات لكنَّهم تجبَّروا وكبروا، وعاندوا وأصّروا على ما هُم فيهِ حتّى رُفعت النَّجمة، فأصبحوا كغيرهم دونَ إستثناءٍ أو تمييز؛ لأنَّهم أختاروا ذلك فحقًّا لا يدري قيمة النِعَم غيرُ فاقديها.