صَلَّى الفجر ثُمَّ عادَ لبيته، دلفَ المطبخ ليُعِدَّ وجبة الفطور لنفسهِ قبلَ أنْ يذهبَ إلى العمل، دقائقَ معدوداتٍ وأنهى قَلي أقراص الفلافل، وضعها جانبًا وأخذَ يُتبِّل صَحن الفول المهروس، لُحيظاتٍ وصّبَ الشاي في كوبهِ المُفضّل (الخمسينة).
مَضى ربع ساعة وللتوِ أنهى تناول الإفطار، ثُمَّ قامَ فارتدى ملابسهُ وذهبَ إلى الجامعةِ حيثُ يعمل.
أوقفَ سيّارتهُ بمَركَنِ السيّاراتِ الخاصّ بالجامعة، ثُمَّ حَمَلَ حقيبتهُ وأسرعَ للمُحاضرة، ما أنْ وصلَ حتّى فاجأهُ الطُلّاب بحفلٍ هادئٍ مُناسبةً لذِكرى ميلادهِ الكريم.
تهللتْ أساريرهُ لرؤيةِ الورد المنثور في قاعةِ المُحاضرات، وكذا القصاصات الورقية المُلّونة التي تحوي همساتٍ من قلوبِ طُلّابهِ لقلبهِ الشريف، بالإضافةِ لبعض صناديق الهدايا رائعة الشكل والمُحتوى.
تُرى ما الذي فَعَلهُ هذا المُعلّم جعلهم يتذكّرونَ ذِكرى ميلادهِ بل ويحتفلونَ بها؟
قبلَ خمسةِ أعوامٍ من الآن أَذِنَ اللَّهُ لهُ بالبلاءِ فماتتْ زوجهِ وحبيبةُ عُمره، وكذا ولديهِ عيسى وسَلَمَة، رَضيَ بقضاءِ اللَّهِ وقدرهِ وصبرَ بُغية وجه ربّه، ثُمَّ أخذَ عهدًا على نفسهِ ألَّا يدعَ فِعلَ خيرٍ يقدرُ على فِعله، ومن حينها لم يُغلق بابهُ في وجهِ أحد، كما لم يُجبر الطلبة على شراءِ مؤلفاتهِ الدراسية؛ حيثُ جعلها صدقةً جاريةً على رَّوحِ عائلتهِ الراحلة إثر حادث أليم.
وفي العامِ الماضي فَعَلَ شيئًا لا يُمحَى من ذاكرةِ طُلّابه؛ فقد لاحظَ غياب أفضل طُلّابهِ وحينَ سألَ عنهُ أخبروهُ أنَّ أباهُ قد تعسّرَ ماليًا فتوقفَ عمله، ولم يجد عُمر مفرًا من تركِ الجامعةِ والعمل لتوفيرِ إحتياجات أُسرته، هرعَ المُعلّم إلى بيتِ عُمر وعَلِمَ أكثر عن ما حَدَث، ثُمَّ طلبَ من عُمر العودة إلى الجامعةِ صبيحة اليوم التالي، مُطمئِنًّا إيَّاهُ أنَّ أباهُ سيُعيد فتح شركتهِ مرّةً أُخرى.
مَضى يومانِ وتبدلتْ الأحوال بعدما أعطى المُعلّم ما ادّخرهُ من مالٍ لأبي عُمر، الذي سُرعان ما شَرَعَ في العمل ويكأنَّهُ لم يتعسّر.
سالتْ عَبراتهِ فرحًا بما أعدَّهُ الطُلّاب من إحتفالٍ بذِكرى مولده، ثُمَّ شكرهم وأثنى على صنيعهم، وبدأ مُحاضرتهِ وسط أجواء مُبهجة للقلب، مُسعِدة للنفس، ويكأنَّهم يقولونَ لهُ: لا تَحزن مُعلّمنا إنَّ اللَّهَ معنا.
جلسَ هذا العاطلُ عن العملِ يحقدُ على جاره؛ فهو يعمل ويَكدّ رُغم كونهِ يَعيش بمُفرده، وهو العائلُ لزوجهِ وبناتهِ قد تَمّ فصلهِ من عملهِ ولم يَجد آخر.
ظلَّ يُفكّرُ في طريقةٍ للحصولِ على أموال جاره، ظنًّا منهُ أنَّهُ أَولى بها منه، فَكَّرَ وفَكَّرَ وفَكَّر حتّى أهداهُ حقدهُ لسَرقته، ومن ثَمَّ التَحصُّل على مالهِ الذي لا يُعَدُّ كما يَزعُم.
مرَّ شهران وحانَ موعد التنفيذ.. دقّتْ الخامسة مساءً بتوقيتِ القاهرة، وهذا هو الموعِد الذي حددهُ اللصّ لسرقةِ جاره، اِرتدى زيًّا غريبًا وقناعًا وقفازان ثُمَّ اِخترقَ خصوصية الباب الرئيسي للشقة، دلفَ وأضاء المكان بكشّافِ هاتفه، بَحَثَ في الأربعةِ غُرف لكنَّهُ لم يَجد ما جاء لأجله، بَحَثَ في الصالة والمطبخ وحتّى الحمام لكنْ دونَ جدوى، أخذَ يتأفأف ثُمَّ تذكّرَ الغُرفة الخامسة والأخيرة، لمعتْ عيناهُ وأسرعَ إليها.
أثناء ذلكَ عادَ المُعلّم من عملهِ بعدما أنهى يوم الهدايا؛ وهو يومٌ خَصصهُ لإهداء طلبتهِ بما يُدخل السرور على قلوبهم، فيُهديهم بصناديق هدايا نافعة ومُفيدة لهم.
أخرجَ مِفتاحهِ ودسّهُ في ثُقبِ الباب ليُفاجأ بأنَّهُ مفتوح، أسرعَ للداخلِ فأضاء المصابيح، وأخذَ يتفقد غُرفهُ حتّى رأى لصًّا مُتنكرًا، لطمهُ بقوّةٍ فأدمى وجهه، ثُمَّ أمسكَ بالقناعِ وحاولَ كشف وجههِ لكنَّهُ طعنهُ بسكينٍ كانَ يُخبأها بسُترته، لحظاتٍ وسقطَ المُعلّم على الأرض وسالَ دمه.
تذكّرَ عُمر أنَّ مُعلّمهُ قد نَسيَ هاتفهُ المحمول، حَمَلَهُ وأسرعَ إليه، تأخرَ في الوصول؛ نظرًا للإزدحام المروري الذي تُعاني منهُ القاهرة.
مَضتْ ساعتانِ وها قد وَصَلَ عُمر ليُصابَ بالذهولِ من هَولِ ما رأى!
وقفَ أمام باب شقة مُعلّمهِ مُرتَعِدَةٌ فرائصه؛ راعهُ مشهد الدِماء السائلة على الأرض، فثَبُتَ مكانهُ ولم يُحرّك ساكنًا حتّى جاءهُ حارس العقار فسندهُ وذهبَ بهِ إلى المُستشفى.
وصلا المُستشفى وصعدا الطابق السابع بالمِصعَدِ الكهرُبائي، أخذ عُمر يسير بجوارِ عم سعيد (حارس العقار)، حتّى إذا ما وصلا أمام باب غُرفة العِناية المُركّزة ورأى عُمرًا مُعلّمهُ بينَ الأجهزة هَوى أرضًا، أخذَ الطبيب المُعالِج يُطمئنُهُ أنَّ المُعلّم قد تعرّض لجُرحٍ عميقٍ لكنَّ اللَّهَ تلّطفَ بهِ فكَتَبَ لهُ النجاة.
اِستأذنَ حارس العقار عُمر في الذهابِ لقضاءِ أمرٍ ما ومن ثَمَّ العودة إليه.
أَذِنَ لهُ عُمر فذهب.
هاتفَ عُمر أباهُ وأخبرهُ بما حَدَثَ للمُعلّم فحزنَ حُزنًا شديدًا ثُمَّ جاءهُ على الفور.
أخذَ عُمر يُناجي رَبّهُ أنْ يُسلِّمَ المُعلّم ويَمُنّ عليهِ بالشفاءِ العاجل، أثناء ذلكَ أتاهُ عم سعيد بصندوقٍ صغير وأخبرهُ أنَّ المُعلّمَ قد طلبَ منهُ فِعلُ هذا قبلَ نقلهِ للمُستشفى بدقائق.
أخذَ عُمر الصندوق وشكرهُ ثُمَّ فتحهُ ليُفاجأ بقلمٍ وورقةٍ وخمسِ جُنيهات، لم يعي ما العِبرة من هذا الصندوق في بادئ الأمر، لكنْ سُرعان ما وجدَ ورقة مطوية توضح لهُ ما لم يفهمه، فتحها وقرأها ليجد أنَّ مُعلّمهُ قد أوصى لهُ بأثمنِ مُدّخراته، هذا الصندوق الذي يبدو بلا قيمة لمَن لم يَفهَم مقصده.
إلى ابني الذي لم أُنجبهُ وطالبي النجيب، عُمر المُجتهد في طَلبِ العِلم، والمُتمّسك بدينهِ والمعروف بنُبلهِ وأخلاقهِ السامقة، إليكَ بُنيّ هذا الصندوق الذي أُعِدَّهُ ثروتي وكَنزي الدفين، أعلمُ أنَّكَ ستندهش في بادئ الأمر لكنْ ستفرح حينَ تعلمُ غايته.
أمَّا عن القلمِ فهذا هو رمز الحياةِ بالنسبةِ لي، فأنا أكتبُ إذًا أنا أحيا، والكتابة مِنّة ربَّانية لإراحةِ العَبد من بعضِ أحزانه، وأمَّا الورقة فهي كَالهدفِ ناصع البياض، إنْ شئتَ ملأتها بسعيكَ وعملكَ وذيّلتها باسمك، وإنْ شئتَ تركتها فارغة ناصعة البياض بلا جدوى، وإنّي أرجو اللَّهَ أنْ تُذيّلها باسمك، وأمَّا الخمس جُنيهات فهذهِ آخر أوّل أجرٍ تقاضيتهُ مُذ عُيّنتُ مُعيدًا، فضّلتُ الإحتفاظَ بها لأنَّها تُمّثلُ بعضَ عُمري، فلم أتحصّل على ذلكَ الأجر إلَّا بعد صبرٍ وجُهدٍ ومُعاناة ومُثابرة.
تبسمَ عُمر ودسّ الصندوق بجيبهِ ثُمَّ أكملَ مُناجاته.
على الصعيدِ الآخر تَمّ القبض على عابد رضوان مُحاسب مفصول من العمل، والمُتوَرط في جريمة سرقة شقة الدكتور سهل مسعود ومُحاولة قتله، وعليهِ فقد تَمّ اِتخاذ الإجراءات القانونية ضدّهُ وهو الآن سجين على ذمّةِ التحقيقات.
بينما قامتْ زوجهِ ببيعِ شقتهم المُلاصقة لشقةِ المجني عليه، وابتاعتْ أُخرى بمنطقةٍ بعيدة عن حي إقامتهم السابق، وأخذتْ ابنتهُ الكُبرى تبحث عن عملٍ لتَعولَ أُمّها وأُختيها.