قصّة قصيرة
أخشى على نفسي من الاعتيادِ أميرتاي، فبعدَ أنْ كُنتُ وحيدة بائسة، أضحى لديَّ فتاتانِ من أجملِ الفتيات، ليتكَ حَيٌّ عيسى، لتَرى ثِمارَكَ بعدَ أنْ كَبُرَتْ وصارتْ تمشي على رِجلين.
اِحتضنتها ناني بعدما قَبَّلَتْ جبينها، بينما ندى تقولُ بطريقتها الفُكاهية: أضحيتِ أنيسة وبائسة نوال، ثُمَّ ضحكنَّ.
ذهبتْ ناني إلى المُستشفى بعدما أعدَّتْ الإفطار لأُمّها وأُختها الصغيرة ندى، وما أنْ وصلتْ حتّى رأتْ جمعًا من النَّاسِ رغم أنَّ الوقتَ لا يزال مُبّكرًا، سألتْ المُساعِدة فأخبرتها أنَّهم لا يأتونَ مُبّكرًا هكذا، وبهذهِ الأعداد إلَّا أيَّام عملها.
تبسمتْ لها ناني، وألقتْ عليهم التحيّة، ثُمَّ دلفتْ غُرفة الفحص، بينما المُساعِدة تُنّظم المرضى، ليكونَ الدخول بأسبقيةِ الحضور.
مَرّتْ ساعتانِ وقد أنهتْ ناني عملها بعدَ فحصِ آخرِ المرضى، قامتْ بتدبيلِ زيّ العمل بزيّها، ثُمَّ ذهبتْ بعدما أكدتْ على ليلى الترأُف بحالِ المرضى، وعدم أخذ أموال منهم غير ثمن تذكرة الفحص.
هاتفتها نوال لتُخبرها أنَّ ندى قد أتتْ من المدرسة، لذا فعليها أنْ تعودَ إلى البيتِ دونَ المرور على مدرسةِ ندى كَالعادة.
أصابَ القلقُ قلبها، فموعد اِنتهاء اليوم الدراسي لم يَحِن بعد، أخذتْ تُفكّر حتّى أوصلها سائق إحدى سيّارات الأُجرة إلى البيت.
دسّتْ مِفتاحها بثُقبِ الباب، وأسرعتْ للإطمئنانِ على أُختها، طمأنتها أُمّها أنَّها بخير، لكنَّ إحدى زميلاتها قد حَدَثَ لها مكروه، ثُمَّ أخبرتها بما حَدث.
دلفتْ ناني غُرفةَ ندى لتوبّخها، لمعرفتها بزميلاتٍ كَتلكَ التي حَدَثَ لها مكروه، تفاجأتْ بردِّ ندى عليها، ودفاعها عن زميلتها، بل ونعتها بالضحية، أخذتْ ناني توضّح لها وتساءلتْ: كيفَ لفتاةٍ بعُمرِ الخامسةَ عشرَ أنْ تحمل بطريقةٍ غير شرعية؟
بل إنَّ الطريقةَ الشرعية التي يُمكنُها أنْ تحملَ بها (الزواج) لم تُكمِل سِنّها المطلوبة، التي أقرّها القانون!
أينَ الأبوينِ من ضياعِ شرف بُنيّتهما؟
بل أينَ هُما من ضياعها هي؟
طلبتْ من ندى أنْ تقطعَ علاقتها بتلكَ الفتاة، ولتُركز في دراستها، لكنَّ ندى قد أخبرتها أنَّها لن تتخلّى عنها، بعدَ أنْ تخلّى عنها مَن فعلَ بِها ما فعل.
شَعرتْ ناني بدوارٍ فدلفتْ غُرفتها لتستريحَ بعض الوقت، بينما نوال تلوم ندى على قِلةِ اِحترامها لكلامِ أُختها، التي كانتْ لها أبًا حينَ ماتَ أبوهما، وأمرتها بتقديمِ الإعتذارِ لها، والإنصياعِ لأمرها.
نهضتْ من فِراشها بعدما ذهبَ الدوار عنها، لتَرى ندى تبتسم لها قبلَ أنْ تُقدّم اِعتذارها، وتُبلغها بأنَّ ما طلبتهُ سيُنّفذ، ثُمَّ عانقتها.
رنَّ هاتفها، ردَّت
فإذ بيوسف قد عادَ من سفرهِ مُنذُ البارحة، اِستأذنَ في القدومِ إليهنَّ، أَذِنَتْ لهُ وذكّرتهُ بألَّا ينسَ هديتها، ضاحكها قبلَ أنْ يُنهي المُهاتفة.
فَرِحَتْ ناني بعودةِ خطيبها يوسف، حُبّ عمرها، وزميل دراستها على مدى سنواتها الطِوال، ها قد أَذِنَ اللَّهُ لقلبها الحزين بالفرح، ولرَّوحها بالسَكينة، ولنفسها بالإطمئنان، فموعد زفافها أوشكَ أنْ يَحين.
فَرِحَتْ نوال بسماعها الخبر الجميل، وراحتْ لتُعِدَّ لهُ ما يُفضّل من الطعام.
أخذتْ ندى ثمن الدرس وذهبتْ، لكنَّها لم تذهب إلى الدرس، بل ذهبتْ إلى بيتِ زميلتها نور، لتُفكّرَ معها في حلٍّ يُخرجها ممّا هي فيه.
سألتها عن وليد الذي تركها بعدما أخذَ منها ما أخذ، تاركًا لها بعضًا منهُ بينَ أحشائها، أجابتها بأنَّهُ قد تَمّلصَ من فِعلهِ بِها، بل قامَ بتهديدها بفضحها إنْ هي أخبرتْ أحد.
أخذتْ ندى تُهوّن عليها، لكنَّ الخوفَ يعتريها؛ فقد أتمّتْ شهرها الرابع من حملها، وستكبُر بطنها في القادمِ من الأيَّام، وسيُفضح أمرها ومن ثَمَّ ستُذبَح.
اِقترحتْ عليها ندى أنْ تُخبرَ أُمّها، وطمأنتها بأنَّ أُمّها لن تُخبرَ أبيها؛ خشيةَ أنْ يقتلَ ابن أُختها وليد.
فَكَّرَتْ نور في اِقتراحِ ندى ورأتهُ عَين الصواب، فوليد هو مَن غَدَرَ بِها، ولم يُراعي صِلة القرابة بينهما، بل زادَ في فُجورهِ حينَ هدّدها بفضحِ أمرها والتنّصُل من جنينها.
عادتْ ندى لتَرى يوسف قد أتى مُحمّلًا بالهدايا، سألها عن مُستواها الدراسي، ثُمَّ أعطاها حقيبة مملؤة بالهدايا خِصيصًا لها، سُرَّتْ بِها ودلفتْ غُرفتها.
أخذَ يوسف يُحدّد موعد الزفاف مع نوال بحضرةِ ناني، وأخبرها أنَّهُ سيُسافِر بناني إلى حيثُ يعمل ويُقيم بإحدى الدول العربية، ثُمَّ سيُرسل لها هي وندى دعوة ليُقيما معهما.
فَرِحَتْ نوال وأكدتْ أنَّهُ قرار صائب، خاصّةً بعدَ أنْ عَمّ الغلاء أرجاء البلاد، وأضحى الجُنيه لا قيمةَ له، حتّى وإنْ عَمِلتْ باقي عُمرها فلن تستطيع اِدّخار بعض المال، أمَّا ما نويتُما فِعلهُ فهو الصواب، كي تستطيعا توفير حياة هانئة كريمة لأولادكما.
مضى شهرٌ وقد تَمَّ عقد القرآن، وأتمَّ يوسف تجهيز شقتهُ ليُقيما بِها بعض الأيَّامِ قبلَ السفر، فَرِحَتْ نوال لفرحِ ابنتها، التي حَلّتْ محلّ أبيها عيسى _رَحِمَهُ اللَّه_ فقد كافحتْ في دراستها وحياتها، فعَمِلتْ بمحلّ الحلويات الخاصّ بأبيها، ثُمَّ توّلتْ إدارتهُ فيما بعد، وها هي قد باعتهُ بعدَ أنْ أضحى من أشهرِ محلّات الحلويات بالقاهرة، ثُمَّ ابتاعتْ بثمنهِ قطعة أرضٍ لتُنشأ عليها بُرجًا سكنيًا فيما بعد.
أخبرتْ نور ندى بموعدِ زيارتها لطبيبةِ النساء بعد يومان، لتُجهضَ جنينها، وهذا هو القرار الذي اِتخذتهُ أُمّها بعدَ أنْ لقيَ وليد حتفهُ بحادثةِ قطار، لم تُخبر والدة نور أُختها أُمّ وليد، وفضّلتْ أنْ تُجهِضَ ابنتها سرًّا.
اِختارتْ ناني فُستانًا أبيضًا كَقلبها، صافيًا كَبشرتها، مُزركشًا، جميلًا، لترتديهِ يومَ زفافها بعد يومان، بينما نوال وندى قد اِختارتا ثوبانِ أنيقانِ يليقانِ بهذهِ المُناسبة السعيدة.
حانَ موعد الزفاف، دَقَّتْ الدفوف، بعدَ أنْ تزيّنَ بيت نوال بأبهى الزينات، فاحَ البخور، نُثرتْ الورود، أُشعلتْ الإضاءة المُلّونة، اِكتستْ الأرض بالسجّادِ الأحمر، واكتستْ الحوائط بالشيفونِ الأبيض، زُيّنَتْ الموائد بألذِّ الحلويات، بالإضافةِ إلى العصائر الطازجة، وكذا الشربات، وبعض الفاكهة والمُكسرات.
أنهتْ ناني زينة الفتيات زينتها، بعدَ أنْ اِكتحلتْ ليظهر لون سوداويها الجميلتان، ووضعتْ بعض طِلاءِ الشُفاه الأحمر كَلونِ وجنتيها، كما نقشتْ رسومات هادئة بالحناءِ على يداها، وخرجتْ ليوسف الذي طالما حَلمَ بهذهِ اللحظة مُنذُ زمنٍ بعيد.
عَلتْ زغاريد نوال ليسمعها القاصي والداني، تعبيرًا عن سعادتها بابنتها ناني، حاولتْ ندى أنْ تُزغردَ لكنَّها فشلتْ، فاكتفتْ بالإمساكِ بذيلِ فُستان العروس.
مضتْ الليلة بعدَ أنْ ذهبتْ ناني مع زوجها لبيتهما، وعادتْ نوال وندى لبيتهما، بينما نور قد فارقتْ الحياة إثرَ نزفٍ حَدَثَ لها أثناء اِجهاضها على يدِ طبيبة نساء قد فقدتْ شرف المهنة، وخانتْ الأمانة، وحنثتْ يمينها التي أقسمتْ قبلَ أنْ تعمل.
قد تَمَّ القبض على الطبيبة فيما بعد، وعلى إثرِ فِعلتها اللاخلاقية شُطِبَتْ من نقابةِ الأطباء، وتمَّ توجيه تُهمة الإهمال للأُمّ، والتي طلّقها زوجها بعدَ أنْ وارى جُثّة ابنتهِ التُراب، ثُمَّ خرجَ ولم يُعُد.
حينَ عَلِمَتْ أُمّ وليد بالخبرِ أصابها شللٌ نصفي، وأصابَ الخزي بيتهم، من فِعلِ ابنهم البالغ من العُمرِ ثلاثونَ عامًا حالَ فِعلتهِ بطفلةٍ لم تتجاوز الخامسةَ عشر، ناهيكَ عن كونها ابنة خالته.
صُدِمَتْ ندى على ما حَدَثَ لنور، لكنْ سُرعان ما عادتْ لطبيعتها بعدَ أنْ سافرَ يوسف وناني، وأرسلتْ إليهما ناني بعدَ أنْ جهّزتْ لهما شقة بجانبِ شقتها بذاتِ البناية.
اِستقرّتْ ناني وزوجها، وأُمّها وأُختها، كما قامتْ بالتقديمِ لأُمّها بجمعيةٍ خاصّة بتحفيظِ القرآن الكريم، لتُكملَ حفظ كتاب اللَّه، بينما ندى تُشاركها الحفظ، وكذا تهتم بدراستها، فهذهِ هي آخر سنة في شهادتها الثانوية، لتُحقّقَ حلمها بالإلتحاقِ بكليةِ الحقوق؛ كي تفهمَ ما لها وما عليها، ولتكونَ عونًا للمظلومينَ على الظالمين.
مَنَّ اللَّهُ على ناني فأنجبتْ فريدة، ابنة قلبها، أحبَّتها حُبًّا جمًّا، جعلَ يوسف يغار منها بعض الشيء، كما قامتْ بإنشاء البُرج السكني الخاصّ بمالِ محلّ أبيها، وكذلكَ أنشأتْ بُرجًا آخر خاصّ بابنتها فريدة، ليكونَ سندًا لها في المُستقبل، تستفيد منهُ عندَ الحاجة، على الرغمِ من شراءِ يوسف بعض الأراضي وتخصيصها لفريدة أيضًا.
ذات يومٍ ذهبَ مالك المُستشفى ليُباشِرَ العمل، وما أنْ رأى ناني حتّى وقعَ بغرامها، حاولَ التقرُّب إليها لكنَّها صدّته، حاولَ أنْ يتقرّبَ من زوجها لكنَّهُ أغلقَ في وجههِ الباب.
ساومها على العملِ مُقابلَ أنْ تتطلقَ من يوسف، وستكون المُستشفى مهرًا لها، وستُقيمُ بقصرٍ فخمٍ بأرقى أحياء عاصمة المملكة، لكنَّها رفضتْ وذكّرتهُ باللَّهِ فلم ينتهي، بل قامَ بفصلِ زوجها من عمله، ظنًّا منهُ أنَّهُ سينفرد بها، فاجأتهُ بتقديمِ اِستقالتها، تَمَّ قبولها من قِبلِ أحد أعضاء مجلس الإدارة، والذي يحقد عليها لجدّها واجتهادها.
لم تستطع ناني اِكمال عيشها بتلكَ الدولة، فعقدتْ النيّة في العودة إلى مصر، وقد كان، فبعدَ أنْ أنهى يوسف اِرتباطاتهم من حيثُ السكن والإقامة ودراسة ندى، عادوا إلى القاهرة، ليبني هو وناني مُستشفى اِستثماري، وتُكمل ندى دراستها الجامعية، بينما نوال ترعى حفيدتها فريدة ذات الخمسةِ أعوام.
أصابَ الحُزن قلبَ يوسف حينَ مرضتْ ناني، فتركَ عملهُ وأقامَ معها ليُداويها ويُهوّن عليها، رأتهُ يبكي فمسحتْ دمعه، وتبسمتْ لهُ قبلَ أنْ تُضيف: آهٍ من الحُبِّ آه، مُنذُ رأيتني بالجامعة ولم تتركني من حينها، بل صمّمتَ على الإرتباطِ بي رغم الفارق الاجتماعي، لم أشعر بالأمانِ بعدَ موتِ أبي إلَّا حينما رزقني اللَّهُ بك، كُنتُ كالتائهة قبلكَ فأهداكَ اللَّهُ لي، لم أَكُن أعلمُ أينَ هي وجهتي حتّى أرسلكَ اللَّهُ إليّ لتكونَ وجهتي، لم تبخل عليَّ بالحنان، بل فِضتَ عليَّ وكفيتني كُلّ شيء، أراكَ أجلُّ نِعَمِ اللَّهِ عليّ.
قَبَّلَها يوسف بينَ عينيها وأردف: ناني نِصفي الثاني، الذي طالما بحثتُ عنه، نصفي الثاني الذي بِهِ أمني وأماني، وراحتي وسكينتي، نصفي الثاني الذي هو سكني ومسكني، ناني رَّوحي بجسدِ امرأة، ناني عقلي برأسٍ آخر، ناني نفسي ونفيستي، ناني جنّتي ودُّنيتي.
ظَلَّ يوسف مُقيمًا بجوارها حتّى اِستردّتْ عافيتها، وعادتْ لبيتها ليزدانَ بوجودها، وتحلو دُّنياها بوجودِ حبيبها، وتسعد بلّمةِ أحبابها.