حينَ اِلتحقتُ بالثانويةِ العامّة كانَ أخي ضمن فريق الإذاعة المدرسية، لذا نالتْ إعجابي، أخذتُ أرقُبُها من بعيدٍ وأسأل أخي عن الفريقِ وكيفية الأداء، بعدها اِستأذنتهُ في الإنضمامِ إليهم، أَذِنَ لي وأصبحتُ ضمنَ فريق الإذاعة المدرسية.
لم يَكُن أستاذنا (بهاء) مسؤول الإذاعة المدرسية على عِلمٍ بأنَّني شقيقة أحبُّ الطُلّاب إلى قلبه، بينما كانَ عددٌ قليلٌ من طُلّابِ المدرسة على درايةٍ بهذا الأمر.
كُنتُ في بدايةِ الأمر أقومُ بتقديمِ فِقرة الحديث النبوي الشريف، وكذلكَ فِقرة الحكمة، وأيضًا فِقرة بعضًا من الشِعر العربي، لاحظَ أستاذنا (بهاء) نشاطي الغير مسبوق في فريقِ الإذاعة المدرسية، فأشارَ عليَّ بتقديمِ بعض الفِقرات الأُخرى.
حَدَثَ وتأخرت المُذيعة عن مَوعِدِ الإذاعة، فأوكلَ أستاذنا بهاء أمر التقديم والربط بينَ الفِقرات إليَّ بالإضافةِ لتقديم فِقراتي، كانَ ذلكَ اليوم هو اليوم الأوّل لي كَمذيعةِ المدرسة، ومن حينها ظللتُ المُذيعة الأُولى للمدرسة حتّى فارقتها.
لم أنَسَ ذلكَ اليوم رغم مرور الأعوام على ذِكراه؛ فقد وُضِعتُ في ذلكَ الموقف دونَ تفكير، أمسكتُ بالميكروفون وبدأتُ في مُمارسةِ عملي كَمذيعة، وأستاذنا بهاء ينظر إليَّ نظرات دعم وتشجيع كُلّما لاحظَ رهبةً في صوتي، وينظر من شُرفةِ المُدّرج إلى الطُلّابِ في الطابورِ المدرسي، فلاحظَ أنَّ الجميعَ انتبهَ لي، فشّجعني بقوله: أكملي لا تخافي، وأخي لم يَكُن موجودًا معنا حينها لتبادُلِ فِقرتهِ مع أحدِ الزُملاء، لكنَّهُ كانَ مُتواجدًا بالطابور.
أنهيتُ الإذاعة ولا أُخفيكم سِرًّا أنَّ الرهبةَ قد أصابتْ صوتي فجعلتني أُخطئُ في حرفينِ تقريبًا، ثُمَّ تنّهدتُ ويكأنَّني كُنتُ أُحارب، اِبتسم لي مُعلّمي بهاء وأردف: براڤو عليكِ، ما شاء اللَّه، أنتِ شاطرة ومُميّزة.
شَكرتُ حضرتهِ على الإطراء والمدح، ثُمَّ أخبرتهُ بما أصابني من رهبة، فطمأنني بقوله: لا عليكِ، هذا طبيعي بالنسبةِ لكِ كَمبتدئة، لكنَّكِ ستتغلبينَ على هذهِ الرغبة، وستتمكنينَ من الميكروفون، وستكون الإذاعة المدرسية مُميّزة بكِ.
اِطمأنتْ نفسي لمقالةِ مُعلّمي بهاء، وحينَ عُدتُ إلى البيتِ جلستُ بصُحبةِ أخي نتحدّث سويًا، فتبسمَ لي قبلَ أنْ يُخبرني كم كانَ سعيدًا حينَ سَمِعَ صوتي وعَلِمَ أنَّني المُذيعة.
كانتْ الإذاعة المدرسية تنقسم لقسمين، الأوّل منهما للبنين ومُدّتهُ ثلاثةُ أيَّام، السبت والأحد والإثنين، وأمَّا الآخرُ فكانَ قسم البنات ومُدّتهُ ثلاثةُ أيَّامٍ كذلك، وهي الثُلاثاء والأربعاء والخميس، وفي سائرِ الأيَّام كانَ هُناكَ طالبًا يقوم بتلاوةِ القرآن الكريم كُلّ صباح بالإذاعة المدرسية.
بعد أسبوعٍ من كوني مُذيعة المدرسة الأُولى عَلِمَ مُعلّمي بهاء أنَّني شقيقة أحبُّ الطُلّاب إلى قلبهِ وسائر المُعلّمين، ففَرِحَ كثيرًا وأخذَ يمتدح خُلق وأدب وحُسن تربية أخي حبيبي.
قد لاحظَ مُعلّمي بهاء ما أحدثهُ وجودي من فرقٍ في الإذاعة المدرسية، فكانَ يمتدحني بعباراتِ الشُكر والثناء، ثُمَّ أَذِنَ لي بإضافةِ فِقرة جديدة لفِقراتِ الإذاعة، وهي إلقائي لبعضِ قصائدي الشِعرية، وهُنا عَلِمتُ قيمة ما أوهبني الرحمٰن من موهبةٍ أدبية جبَّارة، رغم أنَّني كُنتُ أكتبُ الشِعرَ قبلها بسنوات، إلَّا أنَّ عرض بعض موهبتي على جُمهورِ الطُلّاب والمُعلّمين جعلني أعي قيمةَ ما مُيِّزتُ به.
لا أنسَ ما حييت سكون الطُلّاب والمُعلّمين واِنصاتهم لما أُلقيهِ من شِعري، واِنتظارهم لأيَّام البنات في لهفةٍ منهم لسماعِ شِعري، حتّى أنَّهم كانوا يحفظونَ ما اِستطاعوا حفظه، وفي إحدى المرّات قامتْ زميلة باِقتباسِ بيتًا من قصيدتي وبناء قصيدة جديدة عليه.
كذلكَ لا أنسَ اِبتسامة مُعلّمي (أحمد عبَّاس) وقولهِ لي: أسرعي يا أستاذة فنَحنُ في اِنتظاركِ لتُلقي علينا الشِعر، حينها سَعِدتُ كثيرًا جدًّا لشهادةِ مُعلّمي بحقِّ شِعري.
أعودُ بالحديثِ عن كوني مُذيعة المدرسة الأُولى، ظللتُ هكذا طِيلة أعوامي الدراسية الثلاث، بدعمٍ وتشجيعٍ من مُعلّميني وصاحباتي وسائر الطُلّاب، بل وبعض سُكّان مُحيط المدرسة؛ إذ أنَّ إحدى الفتياتِ قد أخبرتني أنَّ أبويها يتناولانِ وجبة الإفطار ثُمَّ ينتظرانِ الإذاعة المدرسية، وبعدها يذهب الأبّ إلى عملهِ وتقوم الأُمّ بأعمالها المنزلية، لكم سعدتُ لسماعِ هذهِ الدَفعة الإيجابية حينها.
مرّت الأيَّام وقبلَ أنْ ينقضي عامي الدراسي الأخير، والذي اِنقضى معهُ عهدي بمدرستي الغالية، قامَ أستاذنا بهاء بعملِ تكريمٍ لفريقِ الإذاعة المدرسية رغم أنَّهُ لم يُكرّم أحدًا من قبل.
أعطى مُعلّمي بهاء جوائز عبارة عن أقلامٍ من الحبر لفريقِ الإذاعة، ثُمَّ أعطاني شهادة تقديرٍ كُتبت بالخطّ العربي الجميل، بالإضافةِ لقلمٍ مُزخرفٍ من الحبر، وشكرني وأثنى عليَّ.