اِنتصبَ واقفًا ليمسحَ عن وجههِ غُبارٍ أصابهُ إثر هبوب الرياح، أخذ يتلفت يمينًا ويسارًا حتّى انفرجَ فاهُ فتساءل: يا إلهي أينَ أنا؟
وما هذهِ الأصوات؟
سعد لتحمل عنّي هذه الأواني.
أعطينيها رافع، يا اللَّهِ ما أثقلها!
رافع: لا حِيلةَ لنا، هكذا أرادتْ حماتُك.
سعد: صدقت رافع وأينَ حماتي الآن؟
رافع: ذهبتْ مع آمنة بصُحبةِ النساء للحمّام العام.
سعد: إذًا ستُزيّن ليَّ العروس ثُمَّ ضَحِكَ في خَجل.
رافع: أتمَّ اللَّهُ زواجك على خيرٍ سعد.
سعد مُبتسمًا: آمين والعُقبى لكَ رافع صِهري الغالي.
هيّا لنُهيّأ الغُرفة ففي المساءِ الزفاف سعد.. ثُمَّ دَلَفَاَ البيت.
ما هذا المكان؟
ومَن هؤلاء النَّاس؟
ولماذا يرتدونَ هذهِ الثياب عتيقة التصميم؟
ثُمَّ نَظَرَ لنفسهِ فإذ بهِ يرتدي مثلهم!
صَرَخَ وكَتَمَ صوتهُ بداخلهِ حتّى لا يسمعهُ أحد.
ليتَني لم أُجرّب.. ليتَني لم أُجرّب.
ربتَ على كتفهِ بحنانٍ وأردف: صباحُ الخيرِ يا هذا.
ردَّ: صباحُ الخير.
سألهُ: مَن تكون؟
أجاب: أنا إنسان.
تبسمَ قبلَ أن يُضيف: أعلمُ ذلك.. أقصد مِن أينَ أتيت؟
أجاب: أتيتُ مِن آخرِ الدُّنيا.
حسنًا وما اسمُك؟
مسروق.. اسمي مسروق.
يا لهُ مِن اسمٍ غريب!
نعم سَيّدي، فقد سُرِقتُ مِن أهلي في صِغري فأصبحتُ مسروقًا.
ولماذا أتيتنا؟
لا أدري سَيّدي.
رُّبما لديكَ سرّك الخاصّ، لا عليك، وأنا لستُ سيّدك، يُمكنُكَ مُنادتي بعمّي جعفر.
مسروق: شكرًا لكَ عَمّي جعفر.
جعفر: هيّا بنا الآن.
مسروق: إلى أين؟
جعفر: إلى بيتي، ستُقيم معي في بيتي.
مسروق: ولكن عَمّي جعفر.....
جعفر: لا تَقُل شيئًا، ستُقيمُ معي بحُكمِ أنَّك ابنُ أخي الغائب مُنذُ زمن.
وفي المساء.. جلسَ على مِقعدٍ من الخشب وارتدى نظارتهِ الطبيّة ثُمَّ فَتَحَ كِتابًا قديمًا وأخذ يسرد لهم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم، سنبدأ جِلسة الحكاوي....
كانَ وكانَ وكان في سالفِ الزمان
رَجُلًا يُدعَى سعفان
يحملُ قلب إنسان
يُشاركُ بطولة الشُجعان
ليس فارسًا من الفُرسان
ولكنَّهُ كريمٌ خَلوقٌ وحمدان
يُساعدُ بني الإنسان
ورفيقٌ بالحيوان
ليتَ شبابنا مثل سعفان.
أنَهَى الحكاواتي حكايتهُ ثُمَّ ذَهَبَ كُلٌّ إلى داره.
أُعجِبَ مسروق بما سَمِعَ، ونَامَ قرير العين رُغم عدم وجودهِ بينَ مَن يعرفهم ويعرفونه.
وفي الصباحِ الباكر.. دلفَ غُرفتهُ المبنية من اللَبِن واقتربَ منهُ هامسًا: مسروق.. مسروق.
نَهَضَ وأخذ يَفرك جَفنيهِ وأضاف: صباحُ الخير عَمّي جعفر.
جعفر وقد ضرب كفًّا بكفّ: هيّا بنا.
تساءل مسروق في دهشة: إلى أين؟
أجاب جعفر بصوتٍ عجول: إلى المركز فقد قامت الثورة.
أومأ رأسه مستفسرًا: ثورة ماذا؟
حملقَ بهِ جعفر وأردف: ثورتنا لإعادة زعيمنا من منفاه.
مسروق: مَن أنتم؟، ومَن زعيمكم؟
جعفر: نحنُ المصريون وزعيمنا سعد باشا زغلول.
تساءلَ مسروق في دهشةٍ: ماذا ااا؟
أنحنُ في العامِ ألف وتسعمائة وتسعة عشر؟
جعفر: أجل، هيّا نُلّبي النداء فقد خرجت القرية عن بَكرة أبيها.
ذَهَبَ مسروق دونَ استيعابٍ مع جعفر وأهل القرية إلى المركز؛ لدعم الثورة المصرية.
ليتَني لم أشرب ذاكَ الشراب الأزرق المسحور.
ليتَني لم أستعرض رجولتي أمام رِفاقي.
ليتَني.. ثُمَّ ليتَني.. ثُمَّ ليتَني.
أَخَذَ مسروق يُردد هتافات الثورة، وكأنَّهُ رَضيَ بالواقع الذي اختارهُ بالمشروبِ الأزرق.
أثناء المُناوشات أُصيبَ جعفر بطلقٍ ناري في قلبهِ أودى بحياته.
تضجَرَ مسروق وتَقَدَّمَ الصفوف كاشفًا عن صدرهِ أمام بنادق الإحتلال.
وقبل أن يُطلَق عليه سَمِعَ أحدهم يُناديهِ خُذ هذا الشراب، استدارَ فإذ بالشرابِ الأزرق؛ أخذهُ وتناولهُ مُسبلًا جَفنيه.
بعد لحظاتٍ اختفى صوت الهتافات، فَتَحَ عينيهِ ليَرى نفسهُ وسط رِفاقه؛ أخذتهُ الدهشة فقام ليُقبّلهم دونَ وعيهِ بسرابٍ يفصل بينهُ وبينهم فسقط فيه.
يحيى.. يحيى لتستيقظ ولدي.
أُمّي أينَ أنا؟
تحت السرير ولدي.
ماذا؟
كما تَرى.. قد هبطتَ من حِلمكَ لتحت السرير آخذًا معكَ الكتاب الذي كنتَ تقرأ.
الكتاب أينَ هو؟
ها هو ولدي مسروق.
مسروق أأنا مسروق أُمّي؟
بل الكتاب ولدي اسمه مسروق.
أمسَكَ الكتاب وقَبّلهُ ثُمَّ قَبّلَ رأس أُمّهُ وأَمِنَ بحُضنها.