أتيتُ إلى الدُّنيا يوم الإثنين الأوّل من ديسمبر لعام.. لا يَهم، تعرّفتُ على الدُّنيا وتعرّفتْ عليّ، أعطتني من كَبَدها، وأعطيتها من صبري، أخذتْ منّي وعوّضني رَبّي، دائمًا ما أشعُرُ وكأنَّ عَلاقتي بها وعَلاقتها بي كَالمدّ والجزر، فلا هي ثابتةٌ على حال، ولا أنا مُستسلمةٌ لمحاولات إحباطها.
لَكَم تساءلتُ بيني وبينَ نفسي: ماذا بعدَ موتي؟
هل ستتوقف الدُّنيا عن غرورها؟
هل ستبكي عليَّ السماء؟
هل سيترّحم عليَّ أحد؟
أظنُّ أنَّ السؤال الأخير هو الأسهل في التحقيقِ من سابقيه؛ فالدُّنيا لا تتوقف عن غرورها لموت أحد، والسماء لن تبكي على فتاةٍ مُجردِ فتاة، لكنْ من المُحتمَلِ أنْ يترّحمَ عليَّ أحد، وكذلكَ من المُحتمَلِ أيضًا ألَّا يترّحمَ عليَّ أحد.
شَغَلَ هذا السؤال حيِّزًا كبيرًا من تفكيري، وأضحى جُلّ هَمّي أنْ يترّحمَ عليَّ ولو عبدٌ واحدٌ من عبادِ اللَّه، لَكَم هي مُريحةٌ هذهِ الجُملة (مريم غَفَرَ اللَّهُ لها).
هذا السؤال جعلني أرى الدُّنيا على حقيقتها؛ هي طريقٌ لا أكثر.
ولا يقتصر الترّحُم على البشرِ فحسب؛ بل لرُّبما نَسيني مَن أنا منهم وهُم منّي لمشاغلهم، وتذكّرتني هِرّة سيَّاحة في أرضِ اللَّه، لمستْ فيَّ بعض الحنان، لذا فمن الخطأ أنْ نحصر الإحسان في فئةٍ بعَينها من خلقِ الرحمٰن، والصحيح أنْ يكونَ الإحسان إلى البشرِ والطيرِ، والأليفِ من الحيوانِ والشجر.
سأظلُّ مهما بلغتُ من العُمرِ جاهلةٌ مصيري في ذاكرةِ مَن عاصروني حالَ موتي؛ لأنَّ الذاكرة يأتي عليها وقتٌ وتخون صاحبها، لذا فمن العقلِ والصواب ألَّا أعتمدَ على ذاكرةِ أحد، وأنْ أستعينَ باللَّهِ رَبّي على صُنعِ ذكرى باسمي، وأنْ أجتهدَ في تركِ أثري.. فماذا بعدَ موتي يُعرف من حياتي كيفَ كانتْ.