قصّة قصيرة
أرادَ الجدّ أنْ يُعلِّمَ حفيدهُ أمرًا فاصطحبهُ إلى حقلهِ ذات صباح.
لتَكُن صبورًا بُنيّ فالدُّنيا خدّاعةُ المُتعجلين، مقهورة أمامَ الصابرين، ضعيفة مع أقوياءِ اليقين، خاسرة إنْ واجهتْ أنقياء الضمير. الحفيد بتأففٍ: سئمتُ العَيشَ مع النَّاسِ جدّي.
الجدّ بعدما رَبَتَ على كتفه: ولأجلِ هذا جئنا إلى هُنا بُنيّ.
الحفيد بعد أنْ حَكَّ رأسهُ في إشارةٍ منهُ لعدم الفَهم: لم أفَهم جدّي.
جلسَ الجدّ تحتَ ظِلّ شجرة السدر العتيقة، بجوارِ بئرٍ لا يَقِلُّ عنها عتاقةً، وأخذَ يُحدّث حفيده بموقفٍ شَهِدهُ في صِغره.
رأيتُ أبي يتحدّثُ مع أحدِ جيراننا في الحقل المُجاور، يُحدّثهُ بلُطفٍ ولَين، لكنَّ الجار قد عَلَاَ صوتهُ ولم يُقدّرُ حديث أبي، فما كانَ من أبي إلَّا أنْ تركهُ وعادَ ليُكمِلَ ريّ الأرض، لحظاتٍ وذهبَ الرَجُل لحقله، تعجبتُ من فِعلِ أبي فوضّحَ لي ما غابَ عن عقلي الصغير حينها؛ أنَّهُ إذا حَدَثَ بينكَ وبينَ أحدهم سوء فَهمٍ فكُن أنتَ البادئ في التوضيح، فإنْ لم يُنصت لك فاتركهُ وامضي حيثُ كُنت، حينها سيعلم أنَّكَ تجاهلتَ لبقاءِ الودّ بينكما، فسيهدأ ثورانهُ ويعود لأطواره، وسيأتيكَ مُعتذرًا إنْ كانَ هو المُخطئ.
وبالفِعل جاء الجار مُعتذرًا بعدَ عودتهِ لحقلهِ بساعة، رَحّبَ بهِ أبي وتعانقا بعد أنْ صَفَا القلبان، لكنَّ الذي أدهشني هو ردُّ أبي عليهِ حينَ قدّمَ اِعتذاره، سَمِعتُ أبي يقول له: لا تعتذر فقد جَفَّ البئر!
سألتُ أبي التوضيح قبلَ أنْ يذهبَ جارنا، لكنَّهُ اِنتظرَ حتّى تناولا مشروب الشاي المصنوع على نارِ الحطب، وتحدّثا سويًا بأمرِ المحصول الزراعي الذي سيقومانِ بزرعهِ بعدَ حصادِ المحصول الحالي، وبعدها ذَهَبَ جارنا لحقله، بينما أنا أتلهفُ سماع السِرّ وراء هذهِ المَقولة.
أخذني أبي وسارَ بي بعض الخُطوات لأرى أكبر بئرٍ في البلدة، بئرٌ عميق وعتيق، لكنَّهُ جَفَّ بعدَ أنْ نَضبَ مورده، سألني أبي: هل تستطيعُ أنْ تملأهُ بحملكَ الماء من مكانٍ آخر ووضعهِ فيه؟
أجبتُ بالنفي، تبسمَ لي قبلَ أنْ يُردف: حاتم ولدي العزيز، هذا البئرُ هو أعمقُ بئرٍ في البلدةِ كُلّها، نَضبَ موردهُ مُنذُ زمنٍ بسببِ ما فعلهُ بهِ أحدهم، لا تُكثر عليّ سأقُصّ عليكَ ما حَدَثَ لتفهمَ أكثر.. كان يا ما كان، في سالفِ الزمان، شَخصٌ يُدعى إحسان، أحَبَّ الخيرَ لكُلِّ إنسان، فكانَ يُهدي من خيرِ أرضهِ الأهلَ والجيران، لكنَّ جارهُ حُسين صارَ منهُ غضبان، لحقدٍ تعلّمهُ من الشَّيطان، فكَرِهَ الخيرَ لإحسان، وفَكَّرَ في شيءٍ يُقصيهِ عن المكان، فكانَ القتلُ ظُلمًا، ومُوارةِ جسدهِ ببئرِ الماءِ عَمدًا، فحَدَثَ ما لم يتبادر يومًا للأذهان، زادَ الماء ويكأنَّهُ فيضان، لتطفو جُثّة إحسان، ظَلَّ البئر يفيض حتّى أفسدَ الزرع ودَّمّرَ الأطيان، تنبَّهَ حُسين فعَلِمَ أنَّهُ سبب الخراب والدمار، سَلَّمَ نفسهُ للنيابة العامّة، ليُجازى على فِعلتهِ وقد كان؛ فقد حُكِمَ عليهِ بالإعدام، هدأ الفيضان، وعادَ البئر كما كان.
حسنًا أبي، ولكنْ أينَ سِرّ المَقولة؟
ربتْ أحمد على كتفهِ بحنانٍ وأضاف: بعدها بفترةٍ سادتْ القطيعة بينَ أهلِ البلدة، وتغيّرتْ المُعاملات فيما بينهم، ويكأنَّ شَّيطانًا قد زادَ النارَ حطبًا فكادَ الجميع يتقاتلونَ لأتفهِ الأسباب، حتّى خَطَبَ فيهم أبي الشيخ حاتم _رَحِمَهُ اللَّه_ وكانَ إمامًا للمسجدِ حينها، فدعاهم للتصالُحِ والتصافي فيما بينهم، والعودة للتمّسكِ بكتابِ اللَّهِ وسُنّة رسولهِ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم_ كما كانوا قبلَ أنْ يُقتَلَ إحسان، ويَسكُن البئر شَّيطان، سَمِعوا لهُ وأطاعوا فتحوّلَ ماءُ البئرِ لنار، تلتهب بالحقد، وتَقوَى بالحسد، وتتضاعف بالفُرقة.
أصابَ البور مُعظم أراضي البلدة، أضحى الجوع ضيفًا لبعض الأهالي، تذكّروا نصيحة شيخهم حاتم _رَحِمَهُ اللَّه_ فتقاسموا اللقمة بينهم، وساعدَ غنيّهم فقيرهم، كما سكنتْ الرحمة قلوبهم، وتعاظمتْ أخلاقهم، وسادَ الحُبّ مُجتمعهم.
ظَلّوا هكذا حتّى مضتْ السنون، وكَبُرَ أبناء البنون، فلم يعرفوا للإنحرافِ سبيل، طبعهم شهمٌ نبيل، أصلهم طيّب أصيل، لا يفتأ أحدهم يُخطئ حتّى يعتذر، غادرَ شَّيطان البئر البلدة؛ حيثُ لم يَجدْ لنفسهِ مكانًا بينهم، وهُنا جَفَّ البئر، لتعودَ السكينة والطمأنينة للأرض قبلَ الأنفُس.
كانَ أحدهم يزور حقلهُ بجوارِ البئر فوجدهُ قد جَفَّ، عادَ ليُخبرَ الأهالي، فشاهدَ أحدهم يعتذر للآخرِ فصاحَ قائلًا: لا تعتذر فقد جَفَّ البئر، ثُمَّ وضّحَ لهم، وصارتْ مقولة مأثورة، نقولها لمَن أخطأ كي نُذكّرَ بعضنا بماضينا، وكي لا يكونَ عليهِ حرج.. أفهمتَ حاتم؟
أومأتُ لهُ ثُمَّ عانقته، ومن حينها لا تُفارقني هذهِ القصّة، فكُلّما شاهدتُ موقفًا مُشابِهًا ذكرتُ (لا تعتذر فقد جَفَّ البئر) وذَّكّرتُ بِها.
والآن سأسألكَ ذات السؤال: أفهمتَ مَقصِدَ ما قصصتهُ عليكَ أحمد؟
أحمدَ بعدما قَبَّلَ جبينه: أجل جَدّي، وسأروي ما قصصتهُ عليَّ لأصحابي؛ كي تعمّ الفائدة، لا حُرمتُكَ جَدّي.
تبسمَ الجَدّ وأردف: ولا حُرمتُكَ أحمد ابنُ قلبي.