ليتني أستطيعُ مُغادرة الأرض والذهاب إلى كوكبٍ آخر شريطةَ أنْ يكونَ مُهيًّأ للحياة؛ كي أحيا في هدوءٍ عميقٍ بعيدًا عن ضوضاءِ هذا الكوكب، أيضًا لأتنَّفسَ الهواء الطَلق الغير مُلّوث، لكنْ للأسفِ الشديدِ لا يوجد، لذا فإنَّني سأظلّ هُنا فعليَّ التأقلُم والتعايُش.
ثُمَّ طوتْ صفحة دفترها ودسّتهُ تحتَ وسادتها ونامتْ.
جاء الصباح كعادتهِ لم يَحمل لها جديد، فبعدَ أنْ تُصلّي فجرها تجلسُ بمُصّلاها تذكرُ اللَّهَ حتّى تطلع الشَّمس من مغربها، ثُمَّ تتناول وجبةَ الإفطارِ كَروتينٍ لبقائها على قيدِ الحياة، وبعدها تقرأ في أحد كُتبها التي تحتفظ بها، ثُمَّ تُشاهِدُ التلفاز لتُعمِلَ عقلها ببرامجهِ المُفيدة والنافعة، وهكذا حتّى يُؤَذن لصّلاةِ الظُهر.
يَضيعُ عُمرها هدرًا بغيرِ فائدة، حُبِستْ بينَ جُدرانِ البيت دونَ جِنايتها، سُلِبَتْ حقوقها التي أحقَّها اللَّهُ من فوقِ سبعِ سماوات، حُرِمَتْ السماء والشَّمس والهواء الطَلق، حتّى كادتْ أنْ تنسى أنَّ الدُّنيا بها شَّمسٌ وسماء.
صّبرتْ وما حِيلة الضُعفاءِ إلَّا الصّبر، كانتْ قوية، شُجاعة، لا تخشى إلَّا اللَّه سُبحانَهُ وتعالى، مَيّزها اللَّهُ بمَيزاتٍ ربَّانية وآثرها بها دونَ سِواها، كانتْ كَالنسرِ لا يقدر أحدٌ على أخذِ ما في يدها، تُحلّقُ بجناحيها بحُرّيةٍ ولم يجرؤ أحدٌ على التقرُّبِ منها؛ لعِلمهم بقوّةِ شخصيتها ورجاحة عقلها، فهي الهادفة التي لا تَرى أمامها سِوى هدفها الذي طالما حَلمتْ به، ظلّتْ كَالنسرِ الطليقِ حتّى قُصَّ جناحيها بيدِ والدها، وهُنا كانتْ الصدمة بالنسبةِ لها.
إنْ كانَ قَصُّ جناحيها آلمها قيراطًا فإنَّ اليدَ التي قَصّتهما قد آلمتها أربعة وعشرون، لم تَحذر منهُ أبدًا، بل لم يجيءُ بمُخيّلها أنَّهُ سيقضي عليها يومًا ما.
وممَّن تَحذر؟
من والدها؟!
أيحذرُ الفرعُ من الأصل؟
أم يَحذرُ البعضُ من الكُلّ؟
كادَ عقلها يُجنّ، كيفَ لفتاةٍ أنْ تَحذرَ من رَجُلها الذي خُلِقَتْ من صُلبه؟
ظلّتْ حائرة بعدما جُرِحَ قلبها بسَيفِ الغدر على يَدِ والدها؛ حينَ حرمها حقّها في التعليم، ومِن ثَمَّ سلبها سائر الحقوق فيما بعد، اِحتجّتْ فصُدِمَتْ من ردّهِ الذي أثبَتَ لها أنَّهُ كما قَتَلَ قابيل هابيل، فإنَّ الوالدَ أيضًا يُمكنهُ قتلُ بَنيهِ ولا غَرابةَ في ذلكَ؛ ما دامَ الحقد هو سيّد الحدث.
رُّبما لم تَكُن تَعلمُ الكثيرَ عن حقدِ الوالد لأبنائهِ حتّى تعرّى لها حقد والدها، وهُنا توقف عقلها عن الإستيعابِ بعضَ الوقت، ثُمَّ عادَ ليُمارسَ عملهُ كما لو كانَ قد نَشِطَ من معقل.
أخبرها غيرَ مرّة أنَّهُ يَملِكُ الكثيرَ من المالِ لكنَّهُ لن يدعها تُكمِلُ تعليمها، إذ أنَّهُ لا حاجةَ لهُ بما ستَحصُل عليهِ من شهادات، كما أنَّهُ لن يقبلَ بأنْ تكونَ هي أفضلَ منه، بل ولن يَسمح بأنْ تظهرَ للعامّة؛ فهي كُلّما وضعتْ قدمها بمكانٍ وضعَ اللَّهُ لها القَبولَ بهِ فأحبَّها النّاس، وهذا لا يُرضيه.
عَلِمتْ ولأوّلِ مرّة بعُمرها ماهية الجرح؟
بل كيف يكون حقد الوالد على بَنيهِ؟
لم تشعُر مُنذُ اللحظة بطُمأنينة القلب بعدما جُرِحَ فتخثّرتْ دِماه.
لم تيأس فسلّمتْ أمورها للَّه، ورَضيتْ بسوءِ القضاء طالما مَن قدّرهُ هو اللَّه، ثُمَّ بحثتْ بداخلها عن بَصيصِ أملٍ فوجدتهُ بحُبِّ رَبِّها، شَدّتْ عليهِ وظلّتْ تُجاهِدُ نفسها حتّى غدتْ غير آبهةٍ بما يُحاكُ لها من مكائدٍ كفيلة بأنْ تُعطّلَ حالها بعدَ قضاءِ اللَّهِ وقدره؛ أجل هُناكَ بعض الأفعال المُشينة الشركية بمقدورها أنْ تؤذي وتُعطّل الحال، وقد ذاقتْ حسناء بعضًا منها، حتّى أنَّها كادتْ أنْ تُودي بها لولا أنْ أحاطتها عِنايةُ اللطيف، فقاومتْ وقاومتْ وقاومتْ حتّى عادتْ تقفُ على رجليها بعدما تركتْ فِراش الموت.
لم تَكُن تعي ما يُدبَّرُ لها لكنَّ اللَّهَ هو خيرُ الماكرين، نجّاها من المهالكِ المحتومة، وعافها من أذى والدها، ونصرها عليهِ حينَ قرّبها إليهِ أكثرَ وأكثر، ومع مرورِ الأعوام لم تَرى للجُرحِ أثرٌ بقلبها ولا لوالدها؛ فقلبها طرّادٌ لكُلّ ما يُغضبُ الإله، ووالدها قد أغضبَ القهّار حينَ عصاهُ في الأمانة فسلبها حقوقها وظلمها، وأخيرًا يكيدُ لها المكائد بمُعاونةِ مَن أشركوا باللَّهِ فامتهنوا السِحر، وكُلّ هذا بسبب حُبُّ اللَّهِ لها.
من حينها أيقنتْ حسناء أنَّهُ لا أمانَ إلَّا مع اللَّه، بعدما حَدَثَ ما لم تتوقعه، ثُمَّ عَلِمتْ أنَّ لكُلِّ داءٍ دواء ما دامَ المرض في الجسد، فإنْ كانَ المرض بالقلبِ فلا دواء لهُ إلَّا تقوى اللَّه، كما أنَّهُ سيظلّ مريض الحقد حاقدًا ولو قدّمتَ لهُ قلبكَ على صَحنٍ ليقضمهُ فيُرضي حقده، لذا كُن مع اللَّهِ ولا تعبأ بمَن سواه.
أخرجتْ دفترها لتسطُرَ بهِ ما عَزَّ عليها تحقيقهُ واقعيًا.. دفتري العزيز حامِلُ همّي، كاتِمُ سرّي، شريك فضفضتي، أمَّا بعد.
دفتري يا مَن تحمّلتني على كُلّ حالاتي، تفكّرتُ في أمركَ فوجدتكَ أغلى ما أملك، فأنتَ وإنْ كُنتَ تبدو كَالورقِ الذي لا قيمةَ لهُ في نَظرِ البعض، إلَّا أنَّكَ تُمّثلُ بعضًا منّي؛ فقد حَبَرتُ بأوراقكَ بعضي على هيئةِ أحرُف، لذا فأنتَ منّي كَالورقِ منك.
كثيرًا ما حلمتُ أنْ أخرجُ من هذا المكان الضيّق لأرى رحابة الدُّنيا، لكنَّ الأفاعيل والمكائد تحول بيني وبينَ تحقيق حُلمي، ورُغم ذلكَ لم ولن أيأس فكما عهدتني باللَّهِ قوية، باللَّهِ شُجاعة، قلبي ينبضُ بالأمل، عقلي يشّع تفاؤل، ولينصرنّي اللَّهُ نصرًا مؤزرًا، وسأسطُرُ سنوات جبري كما سطرتُ لحظات كسري.
ظلّت حسناء تنتظر الفرج حتّى استيقظتْ ذات صباحٍ على موعدٍ مع جبرِ اللَّهِ لها؛ إذ فُتِحَ لها باب الغُرفة المُرفقة بدورةِ المياه (مَحبسها الذي حبسها فيهِ والدها)، ولأوّلِ مرّة مُذ سنواتٍ تدلف الشَّمس لغُرفتها لتُعلنَ لها بأنَّهُ لا زالتْ لديها فُرصة لتبدأ من جديد.
قد أجابَ اللَّهُ دعوتها فأخرجها من ضِيقِ والدها إلى سَعَةِ زوجها؛ ورُغم أنَّ والدها قد تعنّتها برفضِ كُلّ مَن رغبَ في الزواجِ منها إلَّا أنَّ اللَّهَ بالِغُ أمره، تقدّمَ لخِطبتها آدم بعدما سَمِعَ ما أثلجَ صدرهُ من حُسنِ سيرتها وسمتها الحَسن.
هذهِ المرّة لم يستطع والدها أنْ يرفض كما كانَ يفعل؛ لأنَّ آدمَ قد نهاهُ عن التعنّت وحذّرهُ إنْ فعلَ سيكون عُرضة للسَجنِ من قِبلِ والدهِ القاضي بالمحكمة الشرعية لتلك المُحافظة، خشي فؤاد على نفسهِ السَجن فوافقَ على زواجِ آدم من حسناء.
مرّ شهران وحانَ الزفاف، وها هي حسناء تتزين لزوجها بعدما عُقِدَ حُبّهِ بقلبها مُذ شاهدتهُ بالرؤيةِ الشرعية وهو كذلك.
اِرتدتْ ثوبها الأبيضُ كما بشرتها الصافية، المُزيّن باللؤلؤِ والمَرجان، ووضعتْ عليهِ وشاحها الأسود كَشعرها الفاحم، ثُمَّ زادتْ زرقاواها جمالًا ببعضِ الكُحل، ونقشتْ على يديها بالحنّاء.
سويعاتٍ وكانتْ جاهزة للذهابِ إلى بيتها مع زوجها الحبيب، جاء آدم وأخذها في زَفّةٍ جميلةٍ جمعتْ كُلّ نساء عائلتهِ وعائلتها إلى حياتها الجديدة، التي ستبدأ بعد لحظاتٍ مع هديةِ اللَّهِ لها.. زوجها آدم.
رودي ما بكِ؟
رودي، رودي أينَ شردَ ذهنك؟
تنّبهتْ لصوتِ أُمّها فأجابتها: بخيرٍ أُمّي.
إذن ما سرّ هذهِ الدَمعة؟
رودي بعدما مسحتها وطوتْ الكتاب الذي بيدها: كُنتُ أقرأُ هذا الكتاب أُمّي فراعتني قصّة غريبة لم أعهدها من قبل.
سألتها الأُمّ بفضول: وما هي؟
تنّهدتْ رودي وأخذتْ تسرد لها قصّة كوكب آخر وبطلتها حسناء فؤاد حتّى انتهتْ.
تنّهدتْ الأُمّ هي أيضًا قبلَ أنْ تُضيف: الحمدُ لِلَّهِ أنْ أرسلَ لها آدم، كُلّ شيءٍ وارد الحدوث في زماننا هذا.
تبسمتْ لها رودي ثُمَّ همستْ لقلبها: أمَّا عنكَ فلا تقلق سيُرسِلُ اللَّهُ لكَ مَن يَليقُ بك.