الفِراق أشدُّ ما يؤذي الأحبّة، فبهِ تتألم النفوس وتُوّجع القلوب، وتتوقد نارُ الشوق، ويتعبُ الجسد.
كانت جدّتي أُمّ علي _رحمها اللَّه _ تُحبُّني كثيرًا فجعلت علاقتها بي ليست علاقة جدّة بحفيدتها وحسب، بل صاحبة مع صاحبتها، فكنتُ لا أُخفي عليها أمرًا ولا أُفشي لها سرًّا، كما كنتُ شديدة التعلُّقِ بها، ففى صغرى كنتُ أظنُّها كائنٌ لا يموت.. حتّى كبرتُ وعلمتُ بأنَّها حتماً سترحل، فأصابني الحُزنُ على الفِراق لا أكثر، ولَكَم تمنيتُ أن يكونَ موتي قبلها ولكنَّ الأعمار بيدِ اللَّه، ولكُلّ أجلٍ كتاب، تلقيتُ خبر وفاتها بذهولٍ وتسليمٍ لأمر اللَّهِ وصبرٍ كما كانت تُوصيني، ماتتْ في فترةٍ كنتُ أحوجُ ما أكونُ إليها فيها، ولكن قدَّرَ اللَّهُ وما شاء فعل.
مرّت الأيَّام التي كُنتُ أظنُّها لن تمُرّ، وأضحت جدّتي أُمّ علي ذِكرى من الماضى فرحمها اللَّه.
كثيرًا ما كنتُ أُنصِتُ لحضرتها _رحمها اللَّه_ إذ كانت تحكي لى قِصصًا من حياتها، كما كانت تنصحني بنصائحٍ لا ينصحنيها غيرها، كانت تُحبُّني كثيرًا وتدعو لي أكثرًا، وتُهديني وتُدللني.
جدّتي كانت هي الأمان بالنسبةِ لي، فما عانقتُها إلَّا وغشيتني الطُمأنينة، وما قَبّلتُ يُمناها إلَّا لأراها مُبتسمةً فيسعد قلبي، لم أكُن أعلمُ للفقدِ معنًا في حضرتها، بل لم يكُن في حُسباني أنَّها سترحل رُغم يقيني بذلك.
قد رأيتُ الرضا مُتجسدًا في جدّتي _رحمها اللَّه_ فكانت شاكرة ذاكرة حامدة لذا لَزِمَتها السعادة.
قد كنتُ طفلةً مُدللةً تُحبّ اللعب وتهوى المرح ولا يُفارقُها الضحك، فكنت أقضي جُلّ يومي ببيتِ جدّتي؛ حيثُ اللعب والضحك والمرح، بالإضافة لنومِ القيلولة الهادئ بجوارها _رحمها اللَّه_ ثُمَّ الاستيقاظ على أذان العصر لنُصلّي سويًا ومن ثَمَّ تسقيني بعض العصير وتُطعمني ببعض الحَلوى.
حينَ بلغتُ مرحلة الثانوية العامّة فَرِحَت بي ولي كثيرًا وجاءتني لتُهنأني ومعها ما أُحِبُّ من العصائر والحَلوى، ثُمَّ دعتني لقضاءِ يومٍ معها كالأيَّام الخوالي، فَرِحتُ وفعلتُ ما أرادت فكانَ أفضل يومٍ _طيلة مرحلتي تلك_ على الإطلاق؛ إذ كُنتُ أمرحُ بحضرتها وأسعدُ ببسمتها وأضحكُ فأُضحِكَها حتّى أنشدتُ لها ما تُحِبُّ من أناشيد الأطفال لجدّاتهم، لم أكتفي بذلك فجعلتها تترك فِراش المرض وجلسنا نتأمل فيما مَضى، ونأمل فيما هو آت.
جدّتي لم تترك لي ذكريات فحسب، بل زرعت في نفسي الكثير والكثير من القيم التي لا تُمحَى ولو مُحِيَت الذاكرة.
أذكُرُ حينَ تقدّمَ لي أحدُهم فأجمعوا رأيهم أنَّهُ مُناسب، إلَّا أنَّ جدّتي لم ترى في وجهي القبول، فأسرّت لي بأنْ أُحدّثها بما في نفسي ففعلتُ فشدّت على يدي، ونصحتني بألَّا أفعل شيئًا يُتعبني ويُرضيهم، ثُمَّ جلست وأوضحت لهم فكانَ الحقُّ معها فاستجابوا لها.
ما أجمل الجدّات إن كُنَّ كجدّتي.. كُنتُ أذهبُ لزيارتها فتُفاجئني بشرائها فُستانًا تَراهُ يليقُ بي فأرتديهِ وأقضي بهِ وقتي معها، كما كانت تُهديني بجلابيبٍ مُميّزة وجميلة، بالإضافة لأشياءٍ أُخرى.
ولأنَّها جدّتي وصاحبتي فكانت تعلمُ ما يُفرحني وما أُحِبُّ وأُفضل، في إحدى الزيارات جَلستُ كما طلبت منّي _رحمها اللَّه_ لحظات وأتتني بطعامٍ قد أعدّتهُ خِصيصًا لي مُضيفةً لهُ بعضًا من السمن البلدي، وجعلتني أتناولهُ بمُفردي وهي تنظر إليّ، سألتُها فأجابتني بأنَّها قد سبقتني إلى الطعام وأنَّها تسعد كثيرًا حينَ تراني أتناول طعامي.
رُغم كثرة أحفادها إلَّا أنَّ لمريم مكانة خاصّة في السويداء لا يُضاهيها معها غيرها.
جدّتي ليستْ امرأة والسلام، بل هي بعضًا من عُمري وجزءً من رَّوحي وشطر قلبي.
كَذَبَ مَن قالَ أنَّ الليالي مُنسياتٍ والحقُّ إنَّ الليالي مُذكّراتٍ ما كانَ بينَ الأحبّة من أعوامٍ مَضين.
لا أنسى طعام جدّتي _رحمها اللَّه _ وطريقة طهوها لهُ؛ فقد أطعمتني أفضل مكرونة بالصلصة، وكبدة بلدي، وبطاطس مهروسة بالسمنة البلدي، وشعيرية بلدي، والأرز، والكنافة بالسمنة البلدي الغارقة في العسل، والفراخ البلدي، وكذا البط، والفايش الغارق في السمنة البلدي والمُحلّى بالعسل، والكثير من الأطعمة الأُخرى، كما كانت تَسقيني اللبن بيديها حتّى أرتوي.
جدّتي أُمّ علي _رحمها اللَّه_ كانتْ لي وتدًا؛ فلا قلقٌ ولا غيرهِ ما دامَ الأمانُ يغشاني في حضنها الدافئ، ولا هَمٌّ في حضرة لسانها الذاكر، ولا غَمٌّ بمجاورة قلبها الشاكر، ولا حُزنٌ بحضرة تبسمها الرائق.
جدّتي كاد الشوقُ يقتُلني
وكأنَّ الحُبّ أهملني
والجراحُ تقطُنني
والرّوحُ لفِراقكِ تؤلمُني
ومَن غيرُكِ يا جدّة يسألُني:
عن حالي وما يشغلُني
عن هدفي وحلمي
عن فرحي وحُزني
عن ضحكي ودمعي
عن كلامي وصمتي
عن نسياني وذكري
عن حُبّي وبُغضي
عن مريم.. عن نفسي!!!