رأيتها تبكي فاقتربتُ منها، ربتُ على كتفها فرفعتْ رأسها لتراني، سألتها: ما بكِ بُنيّة؟
تبسمتْ ثُمَّ أجابتْ: تذكّرتُ عهدًا مَضى فبكيتُ حالي، رأتني لا أعي مقصِدها فأسهبتْ في شرحها حتّى عَلِمتُ قصّتها.
أخبرتني أنَّ الحياةَ لا تَقِفُ عند أحدٍ وكذا الزمان، وأنَّ القلوبَ تُقطَنُ بالحنان، وأنَّ المذلةَ نَقصٌ وخُسران، وأنَّ الظالمَ مُنتهاهُ قبضة رّبّ الأكوان، وأنَّ القُربى بالفِعلِ لا بالرحمِ واللسان؛ فرُبَّ أهلٍ لم تَجمعكَ بِهم قَرابة عاهدتهم بالودِّ والإحسان.
كفكفتُ دَمعها ودّثرتُ حُزنها بلينِ القولِ والكلمةُ الطَيّبة، نهضتْ لتُعانقني فرأيتُ قدماها وقد كساهما التُراب، نفضتُهُ عنهما ثُمَّ غسّلتُ وجهها فعادَ البريقُ لعيناها، تبسمتْ لي بعد أنْ عانقتني فابتسمتُ لها، أسرّتْ لي أنَّها تُشبهني كثيرًا، تعمّقتُ في ملامحها الطفولية فرأيتني هي، نظرتُ لها نظراتٍ مشدوهة، ضَحِكَتْ حتّى بدتْ نواجدها ثُمَّ أردفت: باللَّهِ عليكِ مريم كيفَ سيدلف أيّ أحدٍ إلى هُنا دونَ أنْ تأذني لهُ؟
ألقيتُ نظرة على ما حولي فوجدتهُ مكانًا يمتازُ بالمتاهاتِ وكثرة الطُرقات، كما بهِ كمًّا ماهولًا من الحبال، حاولتُ فَهم ماهيته لكنَّها قاطعتني بصوتها الضحوك: إنَّها دماغكِ مريم ونَحنُ الآن في أبعديةِ خيالكِ!
أمسكتْ بيدي وأخذتْ تُريني فُسحة خيالي، تبسمتُ وحَمَدتُ رَبّي على هذهِ النَعمة، داعبتْ وجهي بإنعكاسِ ضوءٍ كالؤلؤِ في صفائهِ، أخذتُ أضحك رُغم عدم مقدرتي على فتحِ عيناي بحضرةِ الضوء الساطع.
أخذتْ تجري مُمسكةً بيدي، حاولتُ أنْ أُبطئ سُرعتها لكنَّها لم تستجب، تمرح وتضحك وتفرح، أدخلتنا حديقة غَنَّاء لم أستطع أنْ أرى آخرها؛ لفرطِ فُسحتها وسِعَتها، أخذتْ بعض الماء وقذفتهُ على وجهي، ضَحِكَتُ حتّى بدتْ نواجدي، ثُمَّ اقتربتُ من الحائط لأقرأ ما كُتِبَ على جُدرانهِ، فوجدتهُ جُملة مسطورة بماءٍ ضيّاءٍ يتوهج نورهُ كُلّما اقتربتُ منهُ، الأمل باقٍ ما بَقيَ الحيّ الذي لا يموت.. لامستْ أحرُفها قلبي فضمّدتْ ما كُلِمَ منهُ.
ثُمَّ تجولتُ حتّى رأيتني أكادُ من فَرطِ السعادةِ أطيرُ ويكأنَّني كناري حُرٌّ طليق.
اقتربتْ منّي لتسألني: هل عرفتِ مَن أكونُ مريم؟
تبسمتُ وأجبتها: أجل.
تبسمتْ لي اقتربتْ أكثر لتُعانقني، لحظاتٍ ولم أجدها، تفقدتُها بثوبي الفضفاض رُّبما دُّثرتْ بهِ لكن لم أجدها، أخذتُ أُناديها: مريم، مريم.. في هذهِ اللحظة فتحتُ عيناي لأجدني تاركةٌ قلمي بعد أنْ عصاني مرّة أُخرى.