قد ساقني الشوقُ لأنْ أكتُبَ عن رَجُلٍ تفوّقَ على غيرهِ من الرّجالِ بموهبةٍ جبّارة لا حدودَ لها، بالإضافةِ لأخلاقهِ الحميدة، وصفاتهِ النبيلة، وخِلالهِ الكريمة، وشِيَمهِ الفريدة.
رَجُلٌ تفرّدَ بكرامةٍ مُنقطعة النظير مُقارنةً بأقرانهِ من أبناء جيله الراحلين، بل ومَن كانوا حيثُ كانَ من الزمان.
رَجُلٌ فذٌّ لا شَبيهَ لهُ إلى الآن؛ إذ هو مُعجزةٌ إلهيّة، ومِنّةٌ ربَّانيّة، ومِنحةٌ قدريّة.. إنَّهُ العملاق عبَّاس محمود العقّاد.
اسمٌ غَنيٌّ عن التعريف، صنعهُ صاحبهُ من اللاشيء؛ فعَمِدَ على صبرهِ واعتمدَ على عصاميتهِ التي لا مِثلَ لها، مُحافِظًا على مبادئهِ بل ومُحاربًا من أجلها في أكثرِ الأحيان.
عبَّاس محمود العقّاد، اسمٌ إذا ذُكِرَ سارعَ العقلُ بالحنينِ إلى ما مَضى من أيَّام، أيَّامٍ شَهِدَتْ مهد عملاق من عمالقةِ الزمان.
جذبني شموخ الرَجُل فأخذتُ أتفكّرُ في أمره، ما السرّ وراء تكوين شخصيةٍ قويّة لا تهابُ بل تُهيبُ مَن لم يَكُن مِثلها عقلًا وفَهمًا وفِكرًا.
طفلٌ في السابعةِ من عُمرهِ ورغم ذلكَ تَراهُ يرفض ما قَبلَ بهِ أقرانه، من لباسِ البنطال القصير، ثُمَّ بعدَ ذلكَ تَراهُ يتمرّد على نظامِ المدرسة السائد آنذاك؛ وهو أنْ يُنادى التلميذ باسمِ أحد المشاهير لا باسمِ أبيه، فمثلًا عبَّاس إذًا هو عبَّاس حلمي محمود وليسَ عبَّاس محمود، رَفَضَ عملاقنا ذلكَ النظام رفضٌ قاطع لا مجالَ فيهِ للخضوع.
تعلّمَ ما شاءَ اللَّهُ لهُ أنْ يتعلّمَ ولم يُوافقهُ الحظّ ليُكمِلَ تعليمه؛ إذ الفقر المادّي وصعوبة الظروف، فتوّقفَ عن الدراسة بعدَ حصولهِ على الابتدائيّة، لكنَّهُ أبدًا لم يتوّقف عن إطعامِ عقلهِ الجائع إلى العِلم، وفِكرهِ المُستعر نحو المعرفة.
حدّدَ هدفهُ وعَمِلَ على الوصولِ إليه، فهو الموهوب المُميّز، الواثقُ بما حباهُ الرحمٰن بهِ من إمكاناتٍ لم يَكُن لغيرهِ منها نصيب.
ظلَّ يُطالع ويقرأ ويتعلّم عن كُلّ شيءٍ حتّى أصبحَ موسوعيًّا بكُلِّ ما تحملهُ الكلمة من معنى!
ما جالسَ طبيبًا إلَّا وكانَ أكثرَ منهُ فَهمًا للطب، ولا عالِمًا إلَّا وكانَ أعلمَ منهُ واللَّهُ أعلى وأعلم.
بل حتّى في مجالِ اللُغةِ والترجمة تَراهُ مُتفوّقًا على أبناء ذلكَ المجال، وفي حضرةِ أُمّ الضاد تَراهُ أسدًا مُلِّمًا ببلاغتها وجمالياتها، ومُرادها وأسرارها، ويكأنَّهُ ابنها الوحيد الذي أهدتْ إليهِ خُلاصتها!
إذا سمعتَ اسم العقّاد خُيِّلَ إليكَ جبروتهُ المُتمثل في قوةِ قلمهِ الباسل الذي قَلّما تجد مِثلهِ بواسل، لكنَّكَ رُّبما لم تتوقع أنْ يكونَ صاحبَ هذا القلم هو بذاتهِ صاحبُ قلبٍ رحيمٍ ليّنٍ مُتأثر بما حوله.
فها هو قد أصابَ الحُزنُ قلبهُ إثرَ رؤيتهُ لأحد السُجناء أثناء جلدهِ بزنزانتهِ الخاصّة، حينما حَبسهُ الملك فؤاد الأوّل بتهمةِ سبّ الذات الملكيّة!
لم يَكُن العملاق يعلم بأنَّهُ على موعدٍ بنزلةٍ حنجريّةٍ حادّة، إضافةً إلى ألمٍ لَزِمَ قلبهُ تأثُرًا بمَن هُم يسكنونَ الزنازن المُجاورة لزنزانته.
عن تواضع العملاق فحدِّث ولا حرج؛ فقد كانَ يُعامل حارس العقار الذي يقطن بأحد طوابقهِ مُعاملة الصاحب لصاحبه، حتّى أنَّهُ قد أهداهُ كِتابًا قيّمًا من كُتبه، فتفاجأ الآخر وتساءل: استغفرُ اللَّه.. مَن أنا؟
فردَّ عليهِ العملاق: أنتَ أخٌ وصديق.
مواقفٌ كثيرة قد سَطَرها التاريخ تدُلّ على رأفةِ العملاق، وإمتلاكهِ حنانًا فيّاضًا بإمكانهِ أنْ يكفي الكُرة الأرضيّة.
العملاق صاحب الحسّ المُرهف والدمع الغزير؛ فما كانَ يستمعُ لشِعرٍ حزينٍ إلَّا وتَراهُ منهمر الدمع، وهذا ما حَدَثَ معهُ حينَ أنصتَ لأحدهم وهو يُلقي قصيدةً من قصائدهِ الحزينة، وقتَ إقامتهِ بالسودان.
عبَّاس محمود العقّاد.. عملاقٌ قَلّما جادَ الزمانُ به.