حينَ يمنحكَ اللَّهُ بمَن يُعينُكَ على طاعتهِ فقد أرادَ لكَ الخير.. فكيف إنْ أعطاكَ لمَن يُعلّمُكَ طاعته؟!
وهذا ما حَدَثَ معي؛ فقد وُضِعتُ في حِجرِ فاطمة، الصوّامة، القوّامة، التقيّة، النقيّة، العفيفة، الحيّية والحافظة لكتابِ اللَّهِ العظيم.
فاطمة الراضية بحالها، المُصطبرة على قضاءِ رَّبِّها، المؤمنة بقدرهِ سُبحانه، المُوكّلة أمورِها إليهِ والمُتوكّلة دومًا عليه.
حينَ تزوجتْ جعلتْ هدفها أنْ تزرع حُبّ اللَّهِ ورسولهِ الحبيب _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ في نفوسِ أبنائها؛ فكانتْ تروي لهم قِصصًا من حياة الأنبياء، ثُمَّ الصحابة والصالحين، وذلك بعدما حفَّظتهم قِصار سور القرآن الكريم ليتمكّنوا من أداءِ الصّلاة، ثُمَّ دفعتهم إلى كُتّابِ البلدة ليُكملوا مسيرة حفظ كتابِ الرحمٰن ونِعْمّا بها مسيرة.
ورُغم اِنشغالها بأعباءِ البيت إلَّا أنَّ ذلكَ لم يشغلها عن مُراجعةِ القرآن الكريم فخصّصت لهُ وقتًا وداومَتْ عليه.
لم أرى أحدًا أشدُّ عزمًا في الصّبرِ من أُمّي؛ فهي المُجتهدة في حياتها، والمُكافِحة مع أبنائها، والمُعلّمة لنفسها؛ فقد عَلّمَت نفسها القراءةَ والكتابةَ لتتمكّنَ بعدها من حفظِ كتابِ اللَّهِ، كما كانت تُعلّم جاراتها ما تَعلّمَتهُ سواء في أمور الدين أو الدُّنيا؛ لأنَّها المُتفقّهة في دينِ رَّبِّها.
إذا كانَ للمرءِ أُمٌّ كهذهِ تُرَى كيف سيكون حاله؟
حينَ بلغتُ الخامسةَ من عُمري كُنتُ قد حَفِظتُ مُعظم قِصار سور الجزء الثلاثين من القرآنِ الكريم على يدِ أُمّي حَفِظَها رَّبّي ورعاها، وقد كُنتُ كثيرة اللهو واللعب والمرح، فكُنتُ أستنزفُ كَمًّا لا بأسَ بهِ من طاقتها، ولكنَّها المُصطبرة، فهيهاتَ لي أن أُفقِدَها القُدرة على تَحمُّلي.. ظَلّتْ تُكافحُ معي حتّى حَفَّظتني الجزء الثلاثين كاملًا (جزء عَمَّ)، بالإضافةِ لعِدّة أحاديث نبوية شريفة، وبعضًا من قِصص الأنبياء والصحابة، ثُمَّ دَفعتني إلى شيخ كُتّابِ البلدة حينَ بلغتُ السادسة من عُمري.
أحببتُ القراءة مُنذُ صِغري إذ كُنتُ أرى بعض الكُتب عِندَ أُمّي، كانتْ كُلّما فَاَضَ لها من الوقتِ مُتسعًا اِختلت بنفسها برفقةِ كتابٍ لتنفض عن عقلها غُبار الجهل، ففي ذاتِ مَرّة وجدتها تقرأ فتسقُط عَبراتها، خَشيتُ عليها فجثوتُ أمامها ومسحتُ عنها دمعها، ثُمَّ سألتها عن السببِ فأخبرتني بأنَّها قرأت عن لِينِ الفاروق وشدّة حُبّهِ للَّهِ ورسولهِ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ وعن خوفهِ من رّبِّ العالمين، خاصّةً بعد أنْ أصبحَ أميرًا للمؤمنين، لم أكُن أعي جيّدًا ما سَمِعتهُ من حضرتها إلَّا أنَّ قلبي ترأفَ بها فشاركتُها العَبرات.
ما أجمل الذكريات إنْ كانتْ بحضرةِ القرآن الكريم! فمثلها لا يُنسَى وإنْ مضتْ السنون.
رُغم مرور الأعوام على تلك الذِكرى إلَّا أنَّني لم أنساها؛ حينَ ذهبتُ إلى الكُتّاب لأوّلِ مَرّة مع أخي الذي يكبُرني بعامين، كانَت غُرفتا الكُتّاب مملؤتينِ بالبنينِ والبنات مُختلفي الأعمار، جَلستُ أمامَ شيخي ليختبرني فيما حَفَّظتنيهِ أُمّي فوجدني أحفظهُ عن ظهرِ قلب، فقرر عليَّ أنْ أنضمَ لأمهرِ مجموعةٍ لديهِ في الكُتّاب، فانضممتُ إليها رُغم صِغرِ سِنّي، وفي اليوم التالي أثبّتُ وجودي بحفظي لِمَا علّمنيهِ شيخي البارحة، ثُمَّ عَرّفني على إخوتي في المجموعة وكانَ يومًا مُميّزًا بالنسبةِ لي.
مَرّت الأيَّام ودخلتُ المدرسة الإبتدائية وكُنتُ قد تعلّمتُ القراءةَ والكتابة مُسبقًا من أُمّي الغالية، ولم تمنعني دراستي من إكمال مسيرتي في حفظِ كتابِ اللَّهِ بل على العكسِ تمامًا؛ فبحُبّي للقرآن الكريم أحببتُ العِلم واجتهدتُ في طلبه، ولاحظَ مُعلّميني نبوغي وتفوقي عن أقراني؛ حيثُ كُنتُ أجتاز الإختبارات بتقديراتٍ عالية، ولذلكَ كُنتُ التلميذة المُحبّبة لديهم.
لم أكُن أعلمُ ماهية الخيال حتّى علّمتنيهِ أُمّي من خلال العادة الجميلة التي عودتنيها؛ حيثُ كانت تروي لي لمحاتٍ من حياةِ رسولِ اللَّهِ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ وصحابتهِ الكِرام _رضوانِ اللَّهِ عليهم أجمعين_ يوميًا قبل النوم وهكذا حتّى التمستُ الخيال فيَّ، فبدأتُ أُنّميهِ بقراءة ما يتسنى لي من الكُتب.
كانَ شيخي يُشجعنا على الحفظ من خلال إقامة مسابقات فيما بيننا وتكريم الفائزين، وقد فَضّلني اللَّهُ بالفوز عِدّة مَرّات، وتَمَّ تكريمي وإعطائي عِدّة جوائز، فأوّل جائزة لي كانت مُصحفًا للجَيبِ أخذتهُ من شيخي، وعُدتُ لأُمّي فسَعِدَت لسعادتي، وثاني الجوائز كانَ مُنبِّهًا غاية الروعة، وثالثُها كانَ طاقمًا من الأكوابِ الزجاجية المُزركشة، ورابعُها كانَ مُصحفًا يحوي مُختصر تفسير الطبري، بالإضافةِ لفوزي في مسابقاتٍ أُخرى بجوائزٍ مالية.
القرآن الكريم مصدر كُلّ خير ومِفتاح كُلّ نجاح.. قد حباني اللَّهُ موهبةً أدبية مُنذُ صِغري إلَّا أنَّني لم أعلم بها إلَّا بعد اِقترابي من ختم كتابِ اللَّهِ حِفظًا على يدِ شيخ الكُتّاب، كُنتُ في الثانيةَ عشرَ من عُمري حينَ كتبتُ الشِعر، ثُمَّ أتقنتهُ كتابةً وإلقاءً فيما بعد، بالإضافةِ لكتابتي في عِدّةِ مجالاتٍ أدبية مُتنوعة.
أتذكّرُ حينَ بلغتُ الرابعةَ عشر من عُمري وختمتُ كتابَ اللَّهِ حِفظًا بروايةِ حَفصٍ عن عاصمٍ على يدِ شيخي حسن علي سيّد، لم أكُن بحاجةٍ إلى شيءٍ آخر من الدُّنيا؛ كيفَ لا وقد بلغتُ بذلكَ مَبلغًا عظيمًا، فأهل القرآن الكريم هُم أهلُ اللَّهِ وخاصّتُهُ كما علّمتني أُمّي، كما أنَّ اللَّهَ هو مَن يختارهم، كانت تلك المَرّة هي الأولى لي في خَتمِ كتاب اللَّهِ مُذ خُلقتُ، وقد أصلحني رَّبّي بحملِ كتابهِ العزيز، فمُيّزتُ بالأخلاق الحميدة، والشِيَم النبيلة، والصفات الحَسَنة، والنفس العفيفة، والرَّوح الجميلة، حتّى أنَّ مَن يعرفني أو مَن يجمعني بهم القدر يُبدونَ حُبّهم بجمالِ رَّوحي ويسألونَني عن السرَّ.. والسرُّ هو القرآن الكريم.
عَلِمتُ قيمةَ العِلمِ بعدَ حِفظي لكتابِ اللَّهِ العظيم؛ إذ عَرَفتُ اللَّهَ أكثر من خلال تدّبُري وتعمُّقي في التلاوة، كما فَهِمتُ ما لم أكُن أفهم من الأسرار الرّبّانية المنقولة وحيًا عن رّبِّ العِزّة لرسولهِ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ والماثلة بينَ أيدينا الآن على هيئةِ مصاحف، أيضًا زَادَ نبوغي الدراسي واشتهرتُ ببراعةِ التعبير؛ إذ كُنتُ أحصُل على أعلى درجات التعبير، حتّى أنَّ بعض الجارات أرسلت إليَّ في طلبِ موضوع التعبير لأحد ذويها، كما زَادَني اللَّهُ من فضلهِ بحُبّ وتقدير مُعلّميني لي، وعُرِفتُ بحُسنِ إلقائي وجودة صياغتي لأيّ موضوعٍ أكتُبُ، وما كُلّ ذلك إلَّا من تأثُري بكتابِ اللَّهِ وتأثيرهِ عليّ.
مَرّت الأيَّام وكَبُرَت مسؤوليتي بعد دخولي مرحلة الثانوية العامّة، ورُغم ذلكَ كُنتُ مُلتزمة بالذهاب للكُتّاب بغرضِ المُراجعة حتّى لا يتفلّتَ منّي القرآن الكريم، ظللتُ هكذا حتّى رأيتني الوحيدة من مجموعتي بعد اِنشغالهم بالدراسة، اِستأذنتُ شيخي في تَركي للكُتّابِ لأتفرّغَ للمُذاكرة، تَفَهَمَ حضرتهِ وجهة نظري، وأَذِنَ لي بذلك بعدما نَصحني بالمُداومة على مُراجعة القرآن الكريم، ودعى لي بالتوفيقِ والنجاح.
تركتُ الكُتّاب ولكنَّني لم أترُك مراجعة القرآن الكريم بفضلِ اللَّهِ ومُعاونةِ أُمّي.
حينَ دخلتُ الثانوية العامّة اِنضممتُ لفريقِ الإذاعة فكُنتُ مُذيعة المدرسة الأولى، والشهيرة بقولِ الأحاديث النبوية الشريفة والحِكَم، وذاتِ مَرّة حَدَثَ اِختبار مُفاجئ للفريقِ قبل أن نبدأ اليوم الدراسي، فدلفَ المُعلّم الأوّل للغةِ العربية مُدّرج الإذاعة، وأخذَ يسأل هذهِ وتلك ولم يسألني، ظَننتُهُ نَسيني فتساءلتُ عن ذلكَ فتبسم ضاحكًا وأضاف: مريم هي أفضل مَن تقرأ وتُلقي بالعربية في المدرسة، ولستِ بحاجةٍ لإختبار.
لم تُعيقني ضوضاء الحياة عن إنماء موهبتي؛ فقد اِستعنتُ باللَّهِ على ذلك مُتَخِذةً من القرآن الكريم رفيقًا لي فَنِعْمَ الرفيقِ هو!
فهو المنهل للأدبِ الفخيم، واللفظ الغزير ببلاغتهِ المُتفرّدة، ومُفرداتهِ الرائعة، وصياغتهِ الجميلة، وفُصحاهُ العذبة.
بدأتُ بإظهار موهبتي للنور من خلال مُشاركتي في عِدّة مُسابقات مدرسية في القِصّة القصيرة والمقال، وتَمَّ تكريمي في طابور الصباح من قِبلِ مُدير المدرسة وأخصائي المكتبة، وأخذتُ شهادة تقدير عن قِصّتي القصيرة (كفاح فتاة)، وكذا شهادة تقدير عن مقالي (النيل مستقبلنا)، وحصلتُ على لقب أفضل قارئة؛ نظرًا لإختياري نشاط المكتبة، وقضاء فُسحتي المدرسية بها بجانب الأيَّام المُخصَصة للفتيات، كما أُقيمت مسابقة شِعرية لطُلاب المدرسة الموهوبين، فجلستُ والمُشاركينَ أمام مُُعلّم اللغة العربية _ عضو مجمع اللغة العربية حينها_ وألقى كُلٌّ منّا بعضًا من شِعره، وبعد دقائق أعلنَ المُعلّم فوز شِعر مريم بإعتبارهِ يحملُ أفضل وزن وقافية.
أنهيتُ تعليمي الثانوي ولم يتسنَى لي إكمال تعليمي الجامعي، لم يُزدني ذلك إلَّا تعلُقًا بالقرآن الكريم، فأقمتُ على مُراجعتهِ وخَتمتهُ بروايةِ شُعبة عن عاصم بعد أنْ قرأتُ كتابًا في أصول الرواية، وعلى الجانب الآخر لم أُهمِل موهبتي فعكفتُ على إنمائها بالمُداومةِ على الكتابة وعرض ما أكتُبهُ على أُمّي وإخوتي والمُقربينَ منّي، ظللتُ هكذا لأعوام حتّى عُدتُ ثانيةً لإخراج موهبتي للنور من خلال مُشاركتي في المسابقات الأدبية، وعرض ما أكتُبهُ على جمهور القُرّاء من المجموعات الأدبية، فلاحظتُ اِستحسان الآراء عن موهبتي واِعجابهم بلُغتي العربية الطاغية على كِتاباتي، كما أنَّني أعدتُ قراءة ما كتبتُ قديمًا قبلَ حِفظي للقرآن الكريم وما كتبتُ بعد حفظي لهُ وما أكتُبهُ حديثًا فوجدتُ فرقًا بينَ هذا وذاك؛ والفيصل أنَّ القرآن الكريم قد زادني صقلاً لموهبتي وغزارةً لمُفرداتي، وتنقيحًا لألفاظي مِمَّا قَوَّى مَلكَتِي وجعلني خِصبة الخيال؛ فخيالي لا حدود له.
أضفى القرآن الكريم على أُسلوبي الأدبي سمت الوضوح، فجعلني أكثر براعة في التعبير عمّا يجولُ في ذهني من أفكارٍ ومعان، وما يختلجُ قلبي من مشاعر وأحاسيس.
فاللهمَّ اجعلهُ ربيع قلبي ولا تحرمني بركته.