خَلَقَ اللَّهُ سُبحانَهُ وتعالى بني آدم مُختلفةٌ أجناسهم وطبائعهم، وألوانهم وأشكالهم، ومشاعرهم وأحاسيسهم، وبالتأكيدِ كُلّ التأكيد عقولهم، فلا تطلب من أحدهم أنْ يقبلَ وجهة نظرك ويكأنَّها من المُسلّمات، وإلَّا فإنَّ طريقة تفكيرك عقيمة ولا عَلاقةَ لها بعقلٍ ناضج، خصوصًا إنْ كانتْ وجهة نظرك لا تتوافق مع العقل.
قُلتُ في مقالٍ سابقٍ أنَّ العُلماء ما هُم إلَّا ناقلي العِلم، مع مُراعاةِ حِفاظهم على شرفِ الرسالة، كما وّضحتُ بذاتِ المقال أنَّهم ليسوا حُججًا على ما ينقلونهُ من عِلمٍ بل هُم حُججٌ على أنفسهم، وبَيّنتُ أنَّ الواجبَ على العامّة اِجلالهم وتقديرهم، واِحترامهم وتوقيرهم؛ نَظرًا لِمَا فُضّلوا بهِ عن غيرهم من نقلِ العِلمِ واِعمالِ العقل.
إنَّ حُبّ العُلماء نابعٌ من الفِطرةِ السويّة، التي توقنُ أنَّ العقلَ هو أعظمُ مِنن اللَّهِ للعبد، وبهِ يُجمَّلُ الإنسان، كما تَرى في الجهلِ سوءة لا بُدَّ من سِترها بعقلٍ عاملٍ غير جامد.
فمحبّة العُلماء دَيدَنُ كُلّ ذي لُبّ، لكنْ أنْ يَحولَ الحُبّ دونَ اِعمال العقل، فهذهِ كارثة وَجَبَ التحذير منها.
اِجلال العُلماء لا يمنع من اِعمالِ العقل، ومُراجعةِ ما يقولونهُ مُراجعة عقلية بحتة؛ لتتحقّق الغاية من رسالتهم التي يحملونها، وهي جعل العامّة يُفكّرونَ فيما يُنقل إليهم من عِلمٍ قبلَ أنْ يقبلوا به.
والعُلماء الحقيقيونَ يعلمونَ جيّدًا أنَّ القرآن العظيم، وسُنّة رسولِ اللَّهِ عليهِ وعلى آلهِ أزكى الصّلاة وأتمّ التسليم، هُما فقط ما يُمكنُنا التسليم لهُما، أمَّا ما كانَ دونهما فإعمال العقل فيهِ ضرورة شرعية، ما دامَ المُتلّقي عاقلٌ غير مجنون.
أمَّا عن القرآنِ فهو كلامُ اللَّهِ المُنّزلُ على رسولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وأمَّا عن السُنّةِ النبوية الشريفة والمُطّهرة فهي كُلّ فعلٍ أو قولٍ صدرَ عن رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، ورسولُ اللَّهِ لا يَنطِقُ عن الهوى كما أخبرَ بذلكَ ربّ العالمين فقالَ عَزَّ مِن قائلٍ بعدَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم "لا يَنطِقُ عن الهوى* إنْ هو إلَّا وَحيٌ يُوحَى".
وأمَّا العُلماءِ فإنَّ عِلمهم قائمٌ على الإجتهاد العقلي، فيُمكنُ أنْ يُخطئوا ويُصيبوا؛ إذ أنَّهم بشرٌ وليسوا بمعصومين، لذا قد تَرى مسألةٌ واحدة لها أكثر من حلّ، بُناءً على اِجتهادات العُلماء واِختلافِ طريقة تفكير كُلٌّ منهم.
فلا يصّح عقلًا أنْ يحجُر أحدُهم على رأيٍ قِيل في عالَمٍ ما، وخصوصًا إنْ كانَ هذا الرأيُ مَبنيٌ على الدليل العقلي، كما أنَّنا في آخرِ الزمان؛ حيثُ كثرة الفتن وغيره، ومن هذهِ الفتن أنْ يستخدمَ العالِم ما فُضِّلَ بهِ من رسالةٍ نبيلة لمنافعهِ الخاصّة، ثُمَّ يتجرأ فيما بعد على الذي عَلّمَهُ البيان، فبدلًا من أنْ يكونَ نِبراسًا للعامّة يكون داعي إلى الضلالِ عِياذًا باللَّه، فتراهُ يُفتي طِبقًا لهواهُ فتاوى ما أنزلَ اللَّهُ بِها من سُلطان، وعليهِ فإنَّ مِثل هذا العالِم يكون قد خَانَ الرسالة وعلى العُقلاء النُّصح لهُ والإرشاد، فإنْ لم يستجب فلا يَقبلوا لهُ فتوى، ولا يأخذوا عنهُ عِلمًا حتّى يعودَ لطريقِ اللَّهِ المُستقيم، وإنْ أصرَّ فليردّوا عليهِ فتواهُ ما داموا عاملينَ لعقولهم.
ليسَ من حقِّ أحدٍ أنْ يُجبرَ أحدًا على تَقبُّل رأيٍ لا يحترم العقل، لأنَّ اللَّهَ خَلَقَ بني آدم كُلٌّ بعقلهِ الخاصّ، فلا تطلب من أحدهم أنْ يُسلّمكَ عقلهُ تفعل بهِ ما تشاء.
أمَّا عن المُتعصبينَ للآراءِ وبخاصّةٍ الباطلُ منها، اِتقوا اللَّهَ ولا ترموا المُعترضينَ بالجهالة؛ لأنَّهم لو كانوا كذلكَ لكُنتم سواء.
عقلك أمانةٌ سَتُحاسَبُ عليها.
عقلك أغلى ما تَمِلكُ فلا تُرّخصهُ بالجمود.