أتذكّرُ حينَ ذهبتُ وأخي مع إحداهنَّ لإحدى المُستشفيات الجامعية _بُناءً على طلب الطبيب المُعالج _ والتي لم أكُن قد عاينتُها من قبل، فكانتْ تلك الزيارة بمثابة صدمة لي أو قُلْ إنَّها كادت أن تكونَ كذلك!
دَلَفَ ثلاثتُنا من البوابة الرئيسية للمُستشفي ولكن قبلَ أن أدلف راعني منظر بائع العصير؛ فقد كانَ يحمل صينية بها أكواب من البلاستيك صُبَّ بها ألوانًا من العصائر الصناعية، لم ينتبه البائع لتلوث الهواء ولا تصبُب العرق، بالإضافة لحرارة الشمس المُرتفعة، والتي تكاد تكون قد تخطت الأربعين درجة مئوية في تلك المِنطَقة، لا أعتبُ عليهِ قدر ما أعتبُ على طريقتهِ؛ فلو أنَّهُ تركَ العصائر بمحلّهِ لكانَ أفضلُ لهُ ولها، حيثُ يستطيع بذلك توفير بعض جُهده المبذول في التدليلِ عليها، ولحِفظِها من التلوث وإمكانية تعرضها للتلف لأسبابٍ عِدّة.
هذا بالنسبة لبائع العصير، حَوّلتُ نظري لأرى منظرًا مُروعًا؛ قد تَجَمَعَ البعضُ حول عَربةٍ لبيعِ الطعام (فول مدمس) رُغم حرارة الشمس وتَصبُب العرق، بالإضافة لإنتشار الذُباب هُنا وهُناك، يجلسونَ فيتناولونَ الطعام في العراء، وبجانبهم تُسكَب المياه المُتسخة نظير غسل الأطباق، وبالتالي فقد أضحت تلك البُقعة أكثر رخاوة عن غيرها، العجب ليسَ من بائع الفول ولكنَّ العجب من الذي يُهدر صّحتهُ بعدم الاهتمام بمعرفة ما الذي يتناولهُ؟
ومن أينَ يتناوله؟
وبائع الفول كغيرهِ من الباعة خرجَ ليُعِفَّ نفسهُ ويكفي أهلهُ ذُلّ السؤال _أعانهُ اللَّه _ ولكن ما المانع من ذلك مع الاحتفاظ بقسطٍ ولو بسيط من النظافة والحفاظ على صّحةِ الزبائن؟
بل ما المانع أن تكونَ عربة الفول بمكانٍ نظيف ولو بعض الشيء؟
كُلّ ما سبق لا يُعَدُّ غريبًا بالنسبةِ لي ولكنَّ الغريب أنَّ ما ذكرتهُ آنفًا يحدُث أمام مُستشفى!
بل الأدهى والأمرّ أنَّ مُحيط المُستشفى مُكتظٌ بالسيارات والحركة المرورية!
وبالتالي فطبيعي أن يفتقد المرضى للهدوء والراحة.
ماذا كانَ سيحدُث لو بُنِيَت المُستشفى بعيدًا عن الحركة المرورية ولو قليلًا؟
دلفتُ وقد لفتَ انتباهي مدخل المُستشفى، مدخلٌ لا علاقةَ لهُ بمُستشفى ولا بمُنشأةٍ عامّة حتّى؛ أرضيةٍ مُتهالكة، جُدرانٍ مُشوهة، أسقُفٍ أَرِمَة، بالإضافة لبعض الشُجيرات.
سيرنا بعض الأمتار حتّى وصلنا لإحدى مباني تلك المُستشفى، سأل أخي عن الطبيب الذي جئنا لأجله، فأجابتهُ إحدى طاقم التمريض، ووضحت لهُ بعض الأمور، وبعدَ عناءٍ وسعيٍ ومشقة وصلنا لعيادة الطبيب المرغوب فيهِ من زيارتنا، اِقتطع أخي حجزًا للفحص ثُمَّ وقفنا لعدم توافر مقاعد، أثناء ذلك أخذتُ أرمي بصري فوجدتني قد أُصيبتُ بدوخةٍ أو بعض الدُوار؛ فالحرّ شديد والازدحام أشدّ، ودورات المياه مُلاصقةً لباب العيادة، بالإضافة لكثرة الأتربة.
ظللنا هكذا حتّى جاء دورنا، وبعد دقائقٍ معدودة خرجتُ وقريبتي لأُخبر أخي بأنَّهُ قد تَمَّ تحويلها لطبيبٍ آخر في الطابق الأوّل عُلوي.
سأل أخي عن كيفيةِ الذهاب إلى الطبيب الذي نُريد _نظرًا لتعدُد المباني بالمُستشفى_ وقد وجدَ مَن دّلهُ، دقائق ووصلنا القسم المُراد، كادَ الذهول يقتلني من هولِ ما رأيت، فقد رأيتُ منظرًا لا يَسُرّ الخاطر؛ حيثُ الاهمال الواضح سواء في النظافة أو الإدراة أو حتّى الأطباء.
ذُهلتُ حينَ دلفنا قسمًا خاصًّا بالعملياتِ والجراحة، فطُرقتهِ ضيقة وبابهِ قديم، وغُرفهِ تجلب الاكتئاب والحسرة، بل الأنكى كثرة التُراب الذي يكاد يكون قد غَطّى سائر القسم، هذا بجانب المقاعد الملوثة المُتسِخة حدَّ القذارة، بالإضافة لوجود دورة المياه أمام إحدى غُرف الحجز الطبي بعد العمليات _ رُحماكَ رَبّي_ كيف تكون دورة المياه بعيدة عن غُرفة حساسة كتلك خطوتينِ بالعدد؟
بل كيف يكون صندوق القمامة الخاصّ بالقسم موجوداً بدورة المياه فقط؟
بل لماذا تُرمَى أعقاب السجائر على الأرضِ مُباشرةً بعد الانتهاء منها؟؟؟!
أمَا كانَ من المُفترضِ بمَن يرمي أعقاب السجائر أن يضعها بصندوقِ القمامة بدورةِ المياه المُقابلة لغُرفةِ الحجز بعد العمليات في ذلكَ القسم من تلك المُستشفى؟!!!
جَلستُ مُرغمةً بعد أنْ كدتُ أهوي أرضًا، حَوّلتُ نظري للمكانِ الذي بهِ مُستلزمات القسم الطبية فرأيتُ العجب العُجاب؛ رأيتُ إحدى المُمرضات تُخرج إبرة الحَقن من غُلافها دونَ تعقيم وتغرزها بوريدِ إحداهنَّ دونَ تعقيم، ثُمَّ تضع لأُخرى كانولا دونَ تعقيم، والمريضة مُستسلمة لها آملةً أنْ ترتاح ولو لبعض الوقت من نهشِ المرض.
جَلستُ أحمدُ اللَّهَ على منعهِ وعطائهِ وسائر نِعَمهِ حتّى رأيتُ أحد طاقم النظافة يقوم ببل قطعة من القِماش بالماء ثُمَّ وضعها على الممسحة ومن ثَمَّ المسح بها وهذا هو التنظيف في ذلك القسم من المُستشفى.
لاحظتُ أنَّ طاقم النظافة رجال وسيدات ومعظمهم بوافر الصّحة فتساءلتُ لماذا لم يغسلوا أغلفة المقاعد ولو حتّى بالماء؟
ولماذا لا يضعونَ بعض المواد المُطهرة بالماء الخاصّ بالتنظيف لتعقيم المكان؟
بل لماذا تُهمِل المُمرضات رُغم وجود المُعقمات؟
ولماذا التكاسُل في التخلُص من صندوق القمامة وتنظيف دورة المياه؟
ولماذا التكاسُل في اِزالة الأتربة التي تملأ المكان؟
وكيف يُسمَح بالتدخين في المُستشفى كيف؟؟؟ ؟؟!
ولماذا التوفير من المُستلزمات الطبية لأغراض شخصية على حسابِ مُعاناةِ المرضى؟!
كَم الاهمال هذا يضيع باخلاصِ العاملين، فأنتَ تعمل حتّى وإن كُنتَ مُهملًا فلماذا تُقصر وتدخر جُهدك؟
لا مُبرر لعدم الاخلاص في العمل فقبل كُلّ شيء تذكّر أنَّ عملك سيشهد إمَّا لكَ أو عليكَ أمام ربّ العالمين.
تُهدرونَ الوقت في الحديثِ فيما بينكم ولو أنَّكم أعطيتم عملكم جزءً من هذا الاخلاص لَمَا وصلَ الحال إلى ما هو عليه.
إن لم يُعجبُكَ العمل فلا تقبل بهِ من الأساس حتّى لا تكونَ عبئًا على الأرضِ التي تمشي عليها.
الاخلاص في العمل يا سادة لا يحتاج إلى إمكانيات بل يحتاج إلى ضمائر.
إن بدأ كُلٌّ بنفسهِ لكانَ الوضعُ أفضل ولكنَّنا غرقنا في مُحيطٍ من المُبررات والتي أودت بنا في نهايةِ الأمر.
لا أحد سيُحاسَب مكانَ أحد، ولا أحد سيحملُ وِزرَ أحد، بل لا أحد سيتصدق على أحدٍ ولو بحسنة، ولنتذكّر جميعًا قوله تعالى: "وما كانَ رَبُّكَ نَسيًّا".
لم نُكمل الزيارة وذهبنا إلى طبيبٍ آخر فأخبرنا بأنَّ الطبيب الذي حوّلنا إلى تلك المُستشفى مُهملٌ من الدرجةِ الأولى وأنَّ قريبتي لم تكُن بحاجةٍ سوى لأمورٍ غاية البساطة.