"تاريخ لم يرو وسير لم تدون "
مقدمة
هذا هو الكتاب الثالث من مشروعي لإعادة تقديم تاريخ مصر من منظور مختلف ينشد الحقيقة ويبحث في خفاياها ويربط ماضي مصر بحاضرها وقضاياها المعاصرة بجذورها من الماضي بحثا عن مستقبل أفضل لبلاد تستحق أن تكون في صدارة الأمم ...لقد حافظت في هذا الكتاب وسابقيه أن يكون سياق الحديث أقرب إلى الدردشة منه إلى التأريخ متبعا لغة سهلة وسلسة فالمكتبات أصبحت ممتلئة عن آخرها بالكتب عن تاريخ مصر القديم والحديث تأريخا وبحثا ودراسة وتفصيلا لكن كيف نستفيد من التاريخ ونحاول أن نفهم مواطن الخطأ ومنابع الضعف بعيدا عن مثالية الأحداث وتأليه الأشخاص ...ورغم هذا فقد حرصت على تدعيم كل معلومة في هذا الكتاب بمصادرها التاريخية المعاصرة لأحداثها القديمة دون استخدام لمصادر معاصرة وسيطة كتبت بعد الأحداث بوجهات نظر وأيدلوجيات تخدم وجهات نظر أصحابها ولا تخدم الحدث التاريخي ذاته حتى لا اتحول بغاية الكتاب من القراءة الجماعية بصوت عالي إلى الاتهام والرفض كما حدث ويحدث مع كتب تاريخية كثيرة .
رحلة مضنية ومرهقة بين مئات الكتب والصحف القديمة والحديثة تحملت مشاقها على مدار أعوام أملا وطمعا في بلوغ هذه اللحظة التي أجمع فيها شتات ما قرأت وأضمن محتواه في فصول وأجمل فوائده ومبتغى دروسه في مقالات متنوعة .. المؤسف في رحلتي أن أجد بعض الأرشيفات الإلكترونية لمجلات وصحف مصرية قديمة أصبحت مملوكة لمواقع تابعة لجامعات أوروبية وأمريكية بل وأحيانا لا أجد منها سوى أعداد قليلة على المكتبة الوطنية الإسرائيلية متاحة بمقابل وبدون للباحثين حول العالم ولا أجد موقعا مصريا تابعا لجامعة أو مؤسسة مصرية يضطلع بحفظ هذا التراث أو ينتشل ما بقي منه على الأرصفة وبين باعة الكتب القديمة وهو أصدق مرآة للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في مصر على مدار تاريخها ...
أتمنى أن ينال كتابي القبول والمكانة اللائقة في المكتبة العربية ..
والله من وراء القصد
د.محمد فتحي عبد العال
"أيها الأخوان أنى نظرت فى أحوال الشعب المصرى من حيث التاريخ فوجدته مظلوما مستعبدا لغيره من أمم الأرض فقد توالت عليه دول ظالمة له كثيرة كالعرب الرعاة (الهكسوس) والأشوريين والفرس حتى أهل ليبيا والسودان والرومان، وهذا قبل الأسلام وبعده تغلب على هذه البلاد كثير من الدول الفاتحة كالأمويين والعباسيين والفاطميين من العرب والترك وألأكراد والشركس وكثيرا ما أغارت فرنسا عليها حتى احتلتها فى أوائل هذا القرن فى زمن بونابرت. وحيث أنى أعتبر نفسى مصريا فوجب على أن أربى أبناء هذا الشعب وأهذبه تهذيبا حتى أجعله صالحا لأن يخدم بلاده خدمة نافعة ويستغنى بنفسه عن الأجانب، وقد وطدت نفسى على إبراز هذا الرأى من الفكر إلى العمل".
الوالي محمد سعيد باشا
"كفانا إذن حديثا عن مزاينا ومناقبنا، فهى مؤكدة ومقررة وهى كفيلة بنفسها، ولنركز من الآن على عيوبنا، لننظر إلى عيوبنا فى عيونها فى مواجهة شجاعة، لا لننسحق بها ولكن لنسحقها! لا لنسىء إلى أنفسنا ولكن لنطهر أنفسنا"
جمال حمدان
القسم الأول
المقالات
المقال الأول
بين علماني وشيخ
عادة ما تواجهني في حياتي مشكلة الوقت والذي عادة ما انتزعه انتزاعا لذلك تمثل لي أجازتي السنوية وياليتها سنوية فرصة لالتقاط الأنفاس والعودة إلى أيام الصبا ومهد الشباب حيث راحة البال بين أماكن غادرتها ولم تغادرني وأقران رحلوا ولم يعد للقائهم موعد غير مصادفة قد لا تأتي ونادرا ما تأتي ..
منذ عامين صدر لي روايتان إحداهما ساعة عدل (إجتماعية) والأخرى خريف الأندلس ( تاريخية) ..ومنها بدأت رحلتي في عالم الأدب والأدباء والنقد والنقاد وقد ظننته عالما أكثر رحابة من عالمي الوظيفي الضيق القاتم..
نصحتني إحدى الناقدات أن التحق بإحدى الورش الأدبية بأحد أحياء القاهرة العتيقة للاستفادة من النقاشات الساخنة هناك بين الأدباء ومن ثم عرض الروايتين بعد ذلك للنقاش ..
حضرت على الموعد مرتديا بدلة وقميص تحته تي شيرت ذو لون فاقع غريب الأطوار إذ كنت في عجلة من أمري والطقس شديد البرودة ليلا ..المهم وصلت الورشة والتي تتبع حزب يساري أكل عليه الدهر وشرب ولم يبق ما يدل على شعاراته سوى صور عبد الناصر التي تتصدر المدخل ..
لا بأس وإن بدت البدايات غير مشجعة ..جلست وبدأ النقاد في استعراض الكتاب موضع النقاش وصاحب الكتاب يدافع عن نضارة فكرته وأنه اقتحم عالم الحب والغرام والهيام من أبواب لم يعرفها لا عنتر ولا قيس ..
لا أفهم لماذا أقحم مدير الندوة فجأة وعلى غير موعد مسألة الاستشفاء بأبوال وألبان الإبل مستشهدا من ذلك على غيبوبة العالم العربي ووقوعه في غيابات الخرافة والجهل وقبلها كان يشدو بالرواية الملحمية موضع النقاش و المكتظة بالتلميحات الجنسية المبطنة والصريحة والوصف الكامل للعلاقات الحميمية وأنها تذكره بشقاوتة مع بائعة الخبز على أول شارع بلدته .. وبرر طبعا الجنس في الرواية بأنه يخدم النص في رؤية الناقد المثقف الجهبذ صاحب الشوارب المفتولة والعينين الغائرتين!!
الحقيقة لم استطع الصمت وقد ظهر على وجهي الحنق وسط محاولات من زميلتي الناقدة والتي كانت تجلس بجواري لإثنائي عن مقاطعته ووجهت حديثي إليه :
-يا سيدي إني استغرب ممن يستهجن كل ماهو ديني لمجرد أنه لا يعجبه وتعافه نفسه فالتداوي بألبان الإبل وأبوالها جهل وغمس الذبابة في الإناء بداوة وكل هذا الرفض بحجة العلم ..
هز الرجل صلعته في استعلاء وراح يضحك لكن ذلك لم يمنعني من أن أكمل
-ما رأيك يا سيدي في القهوة التي يتغزل فيها الشعراء والمفكرين ؟
رد الرجل : أنا احبها ألا ترى قدحي الممتلىء ؟!
قلت : هل تدري يا سيدي أن أغلى أقداح القهوة التي تضعها امامك وتبهجك من براز الحيوانات ؟! فهل يا ترى تتهم العلم كما اتهمت الدين ؟!
صمت الرجل وفتح فاه ثم قال منفعلا :
-يا عزيزي هذا المكان ليس مناسبا لمناقشة الخرافات والمقارعة حول الخزعبلات واستعراض العضلات في الأوهام.
قلت : يا أخي الفاضل أنا أحدثك بالعلم الذي تفاخر به فكوبي لواك القهوة الأندونيسية المشهورة والكوب منها بثمانين دولارا من براز قطط الزباد وقهوة العاج الأسود التايلاندية من براز الفيلة وسعر الكيلو منها ألف دولارا ..فهل ستتوقف الآن عن استعمال القهوة مشروبك المفضل لإن العلم استخرجها لك من براز الحيوانات ؟!!
فصمت الرجل واحمر وجهه ..
وتمنيت لو كان يتقن الإنجليزية لأطلعته على دراسات منشورة حول الاستشفاء بألبان وأبوال الإبل وياليته يترك رسوم الكاريكاتير المتغزلة في النساء العاريات والايحاءات البذيئة على صفحته على موقع التواصل الإجتماعي ويباهي بأنه يعثر عليها لجيل الرسامين القدامى ويقرأ عن الإعجاز العلمي في دينه ويشرحه للناس بالتأكيد سيكون عملا نافعا يقابل به الله ..
(ملحوظة هامة : تجري أبحاث دوائية عديدة فيما يتعلق بأبوال الحيوانات ومنها الجمل وبحسب الأبحاث فبول الإبل ناجع كواقي للمعدة والكبد ومضاد لتكدس الصفائح الدموية ومضاد للميكروبات كالبكتريا ويمنع الضرر بالكروموسومات علاوة على دوره ضد السرطانات خلايا هيلا والساركوما العظمية واللوكيميا ..ويمكن مراجعة بعض الأبحاث الخاصة بذلك وبعضها منشور في قاعدة البيانات ساينس دايركت التابعة لدار النشر العريقة إلزيفير ..
https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0278691521001642
https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S1319016421001031
https://universepg.com/journal-details/139
أما ألبان الإبل فقد أثبتت الأبحاث فائدتها في علاج اضطرابات المعدة والأمعاء وخفض الكوليسترول في الدم وتقوية المناعة والحماية ضد السرطان ومرض الصدفية وغيرها .
ويمكن مراجعتها على المقال التالي :
https://www.ejmanager.com/fulltextpdf.php?mno=189799
طبعا هذه ليست دعوة للاستخدام العشوائي خارج الإطار الطبي المنضبط ولكن بيان وشرح أن الحديث النبوي الشريف ينطوي على إعجاز كبير وليس جهل وتغييب للعقول كما يدعي بعض المغيبين وقد كنت منهم يوما قبل أن ينير الله بصيرتي للحق والصواب هدانا الله جميعا ) ..
انصرفت متأخرا وعدت إلى منزلي وكان اليوم التالي هو الجمعة فاستيقظت نشيطا وذهبت إلى المسجد مبكرا وقد سمعت أن شيخا بارزا من بلدة مجاورة سيأتي لإلقاء خطبة الجمعة ...كانت الخطبة الأولى للشيخ عن التبرج وأن الحجاب فريضة شرعية وضرورة تنشئة الفتيات منذ الصغر على إلتزام الحجاب وهو كلام طيب ثم بدأ يحلل الواقع الآن وأن التبرج بدأ بمصر يوم خلعت هدى شعراوي حجابها وراح يصيح بصوت متهدج أن هدى شعراوي سافرت إلى فرنسا محجبة وعادت سافرة وأن أبيها كان في استقبالها في ميناء الإسكندرية فلما رآها سافرة امتقع وجهه غضبا ونكس رأسه خجلا ...طبعا العوار بالقصة وهي مشهورة ومصدرها كتاب واقعنا المعاصر لمحمد قطب واضح ذلك أن والد هدى شعراوي توفي عام 1884 وهي لازالت طفلة في الخامسة من عمرها وهو ما يفكك كل عرى هذه القصة الواهية (يمكن العودة لكتاب على هامش التاريخ والأدب).
في الخطبة الثانية تطرق الشيخ إلى الإعجاز العلمي في القرآن وقصة فرعون موسى وأن فرعون موسى رمسيس الثاني تسبب في إسلام الجراح الفرنسي موريس بوكاي الذي رافق الجثمان في رحلته لفرنسا واكتشف أن القرآن تحدث عن غرق مومياء فرعون وعن سلامة جثته فكيف علم محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الحقيقة قبل أكثر من ألف عام سابقا الغرب ومخالفا للتورآة والأنجيل وأن بوكاي قضى ليلته يحدق في جسد فرعون وهو يتأمل هذا الإعجاز القرآني الفريد ثم أعلن إسلامه ومن ثمرات هذا التوحيد كتابه "التوراة والإنجيل والقرآن والعلم " وبعيدا عن نفي أو إثبات إسلام بوكاي فلو كلف الشيخ نفسه عناء البحث وفتح كتاب بوكاي وهو متوافر باللغة العربية لوجد أن بوكاي اعتمد على التورآة أكثر من أي مصدر آخر في تقرير حقيقة فرعون فهو يأخذ برأي التورآة حول وجود فرعونين لقصة موسى الأول فرعون النشأة والاضطهاد وهو رمسيس الثاني وفرعون للخروج هو ابنه مرنبتاح بما يخالف القرآن الذي ينص صراحة على أنه فرعون واحد ..كما أن إصرار بوكاي على إقحام رمسيس الثاني تحديدا في موضوع البحث عن حقيقة فرعون موسى كان مبعثه التورآة التي تنص على اسم فرعون رمسيس صراحة فيما لم ينص القرآن على اسم فرعون..فيما يخص مصاحبة بوكاي للجثمان في فرنسا فهي قصة ملفقة وصحتها أن بوكاي قاد حملة بالصحف الفرنسية لإنقاذ مومياء رمسيس الثاني زاعما أنها توشك على التحلل والفناء بفعل البكتريا والفطريات ولابد من علاجها بفرنسا واقتنع الرئيس السادات بذلك وسافر الجثمان لتلقي العلاج بمتحف الإنسان في باريس لكن لم يكن بوكاي من ضمن الوفد المشرف على علاجه ..
طبعا لم يكن بوسعي التصحيح للشيخ في المسجد وإلا حدث مالا يحمد عقباه فأثرت السلامة وعزمت على تصحيح الأمر بمقال لم يأذن به المولى تعالى حينها ...
القاسم المشترك بين القصتين هو أننا لا ندقق رواياتنا ونردد ما يقوله غيرنا دون بحث وتمحيص فلا العلماني تبصر بالعلم قبل أن يركب موجة الاستعلاء على الدين ولا الشيخ تأكد من صحة مصادره ليهذب حضوره بعلم حقيقي رصين و ليرسو بسفينة دينه على شطآن الحقيقة..
المقال الثاني
شيخ العروبة والصهيونية
لقد شاءت الأقدار أن تطول أعمارنا لنشهد مثقفين عرب يسارعون للتطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب لأراضينا ومقدساتنا بفلسطين ..
وعلاقة المفكرين خاصة المصريين بالصهيونية لم تكن وليدة اللحظة ولا حتى بعد كامب ديفيد عام 1978 ولكنها أبعد من ذلك ..
كان أبرزها مشاركة أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد في حفل وضع الأساس للجامعة العبرية في 1 أبريل 1925 كممثل للحكومة المصرية آنذاك ولعل هذه المشاركة والتي جعلت أستاذ الجيل في قفص الاتهام دائما كممهد للتطبيع هي ذاتها السبب في تفكير جمال عبد الناصر بأحمد لطفي السيد ليكون رئيسا لمصر فقد كان على أولويات الثورة المصرية تحت الإلحاح الأمريكي قبول المفاوضات مع إسرائيل وتوقيع معاهدة سلام معها وذلك بفرض صحة هذه الرواية ..
بحسب ما قرأت فإن شيخ العروبة أحمد زكي باشا وهو من الرعيل الأول للنهضة الأدبية في مصر ومن طليعة من اضطلعوا بإحياء التراث العربي الزاخر وأول من وضع علامات الترقيم باللغة وهو من اختصر حروف الطباعة وأحد مؤسسي الرابطة الشرقية كان من ضمن المدعوين لحفل الجامعة العبرية لكنه أبى ذلك ...
مفاجأة من العيار الثقيل اكتشفتها وأنا أقلب بمجلد ارشيف مجلة الكشكول لدي ..
فما هي المفاجأة ؟!!
بحسب ما نشرته مجلة الكشكول في 16 يناير 1931 فقد تأزمت العلاقة الحميمة بين أحمد زكي باشا والأستاذ محمد علي الطاهر صاحب جريدة الشورى بفلسطين ووصولها لساحة المحاكم حيث أقام صاحب الشورى جنحة مباشرة أمام محكمة الجيزة يطلب فيها الحكم على الباشا بالحبس وبتعويض قدره مليم واحد!!!
تكشف المجلة عن بداية العلاقة بين الرجلين إثر إتهامين طالا شيخ العروبة الأول: كتابته لمنشور أصدره المحفل الأكبر القديم ضد أهل فلسطين والثاني :كتاب أرسله شيخ العروبة إلى الدكتور ايدر رئيس الجمعية الصهيونية العالمية يهنئه بفوز الصهيونية الذي كان في عرف سعادة الباشا أعظم فوز للشرق ..أما المنشور الأول فتنصل الباشا منه حالفا بكذبه وأما كتابه إلى رئيس الجمعية فلم يستطع إنكاره لأن الأخير سارع بنشره في جريدة الديلى كرونكل ونقلته جريدة فلسطين للعربية وكان دفاعه في القضيتين أمام أهل فلسطين وبوقه المدوي للتخلص من عدائهم هو صاحب جريدة الشورى .
عرفنا الباشا فمابال صاحب الشورى؟!!
بحسب الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية التابعة لمؤسسة الدراسات الفلسطينية و المتحف الفلسطيني فمحمد علي الطاهر لم يتلق أي تعليم بالمدارس وأن جم تحصيله كان من الكُتّاب الذي ألحقه به والده في مدينة يافا مكان نشأته.بدأ حياته مراسلاً لجريدة "فتى العرب" البيروتية حيث نبه لخطر الصهيونية مبكرا في مقال له حمل عنوان "الصهيونيون في فلسطين" عام 1914 ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى انتقل للعمل بمصر حيث قبض عليه ..عاد لفلسطين بعد الحرب ثم لمصر مرة أخرى وافتتح دكاناً متواضعاً في حي الحسين ليبيع فيه ما يستورده من نابلس من زيت الزيتون وتحول دكانه مع الوقت لملتقى للوطنيين المصريين وغيرهم من أنحاء العالمين العربي والإسلامي.كما توسع نشاطه في مصر فأنشأ "مكتب الاستعلامات العربي الفلسطيني" وأسس "اللجنة الفلسطينية "فضلا عن جريدة "الشورى" الأسبوعية، التي صدر العدد الأول منها في 22 تشرين الأول/أكتوبر 1924، وكان شـعارها في بادئ الأمر "جـريدة تبحث في شؤون سوريا (فلسطين، سوريا، لبنان، وشرق الأردن)" ، ثم استبدله إلى "جريدة تبحث في شؤون الشعوب المظلومة والأمم المستعبدة"، ثم غيّره مرة أُخرى ليصبح "جريدة تبحث في شؤون البلاد العربية والأقطار المظلومة".
فما الذي حول المحبة بين الرجلين إلى جفاء ؟!!
نعود لمجلة الكشكول والتي أماطت اللثام عن أسباب تحول العلاقة بين الإثنين إلى جفاء وأولها تكلف الباشا الشديد فيما يخص الأخطاء الإملائية إلى حد إرغام صديقه على إعدام جميع نسخ جريدته وإعادة طبعها لأنه كتب "من عهد قحطان وعرفان " بدلا من "من عهد قحطان وعدنان " (هنا المعرفة تحولت لخسائر مادية فما أكثر الأخطاء الإملائية في صحف زمان) أما السبب الذي كان القشة التي قصمت ظهر البعير فهي تطاول خادم الباشا على الصديق وسط لامبالاة من الباشا ..تطور الأمر وساد الجفاء بين شيخ العروبة وصديقة إلى أن جاءت الليلة الموعودة حيث جمعهما حفل عشاء أقامه وحيد بك الأيوبي تكريما للأستاذ الثعالبي وحانت لحظة المواجهة بين الصديقين ليتطاول شيخ العروبة على صديقه صاحب الشورى وقد كان ما كان ...
المقال الثالث
الهيضة وسنينها
يقول المؤرخ القاضي علي بن داود الجوهري الصيرفي في كتابه (إنباء الهصر بأبناء العصر ) أن وباءا كان موجودا في الأدميين ثم انتقل إلى البقر وانتشرت الجيف من البشر والبقر.. وضع إنساني مأساوي أدى إلى أزمة اقتصادية طاحنة حيث وصل ثمن القمح في الوجه القبلي إلى ستمائة درهم للأردب ورغم ذلك صار عزيز الوجود وفي وسط هذه الأزمة والوباء ..أين كان المماليك الاعزاء حكام الديار المصرية ؟!
كان المماليك وقتئذ منشغلون بزيارة الأمير قنصوه الخسيف والذي أصابه ألم بمؤخرته عالجوه بالفولاذ ..
مشهد من العصر المملوكي قصير المدة عظيم المغزى يكشف ويصور كيف تعامل أولى الأمر مع الأزمات قديما فالموت يحاصر الفقراء ويحصد أرواحهم والأثرياء وعلية القوم في شغل شاغل عنهم حتى ولو ببواسير قائدهم !!!
لذلك لا تستعجب يا سيدي من تحقيق بمجلة آخر ساعة عام 1946 سئل فيه رجل الدين ورجل الشارع والتجار والطلبة: هل تستطيع تأجيل شم النسيم لبدئه مع نهاية وباء الكوليرا!! وجاء في مطلع التحقيق "إن شم النسيم في خطر ..لأول مرة في تاريخ مصر يأتي في رمضان في 26 منه"
طبعا شم النسيم مناسبة محببة للمصريين ويكفي أن من أوائل الأفلام الكوميدية الصامتة (جحا وأبو نواس ) المعروض في أغسطس 1932 المأخوذ عن قصص مجلة الفكاهة التي كان يكتبها الفنان علي رفقي كان عن هذه المناسبة ..لكن في وقت الوباء حيث يطحن الوباء الفقراء فالاهتمام بمثل هذه الأمور هو ترجمة للمثل الشعبي الدارج "أخويا هايص وأنا لايص".
وحتى نتخيل معا حجم المآسي التي حلت بمصر جراء الكوليرا فلنمضي معا مع الاستاذ محمد حسنين هيكل في تقريره بمجلة آخر ساعة عن انتشار الكوليرا في قرية القرين (إحدى قرى محافظة الشرقية) والذي حمل عنوان "الحياة في قرية الموت" ..وخلاصة التحقيق أن موقع القرية بالقرب من معسكر التل الكبير جعلها مهبط للغرباء من عمال الجيش فكان فلاحيها يخصصون من بيوتهم حجرة أو حجرتين للإيجار على غرار نظام البنسيونات بالمدن ومن عمال الجيش الغرباء كان تفشي الوباء في القرية المنكوبة .. خشي أصحاب البيوت من الابلاغ عن الحالات خشية العزل الصحي لهم (نفس العقلية المصرية واحدة بكل الأزمنة) مستغلين أن الموتى من الغرباء ولن يسأل عنهم أحد فأسرعوا بدفنهم بالجبل وإذا تصادف وسأل عنهم أحد فالإجابة حاضرة : فر قبل الوباء ..
اللافت أن الوباء انتشر أيضا بين تجار البلح فبحسب المحاضرة العاشرة للطبيب سيف النصر أبو ستيت عن الكوليرا عام 1947 فإن أول حادث وفاة في سرياقوس في سبتمبر عام 1947 وكان تاجر بلح وأن تجارب معامل وزارة الصحة ربطت بين قشرة البلح التي تخفي جراثيم الميكروب وانتشار الإصابات بين تجاره!!
وعن القصص الإنسانية التي رافقت الوباء في القرية يتحدث هيكل عن قصص الغرام بين عذارى القرين الجميلات والتي تكلل بعضها بالزواج والبعض الآخر عاجلته الأقدار لذا ظهر من فتيات القرين "حزينات بلا سبب" ومن الشخصيات التي صادفها هيكل في هذه الملحمة الإنسانية بيومي عامل التبخير وكذلك الفيلسوف المعلم الذي مارس العزل داخل منزله بحثا عن أصل اسم قريته مهتديا إلى أن الأصل في زيارة السلطان قايتباي لها وملاحظته لنخلتين متعانقتين ومن هنا جاءت التسمية بالقرين !!!
وعلى عادة القرويين في الربط بين كرامات الأولياء وسبل النجاة في جميع أحوالهم الحلو والمر منها فقد اعتقد الأهالي في مقبرة الشيخة (حمدة) وحمايتها لهم من الكوليرا ...
إلى هنا رصد وتحقيق من الاستاذ هيكل رائع فاز عنه بجائزة فاروق للصحافة تحت سن الثلاثين لكن ما ليس برائع هو فوز الاستاذ ولمرتين متتاليتين أخرتين بنفس الجائزة مما حدا بإدجار جلاد باشا صاحب جريدتي الزمان المسائية، والجورنال دي إيجيبت و صاحب فكرة الجائزة أن يطلب من هيكل بلطف عدم التقدم للمرة الرابعة لإفساح الفرصة لآخرين فصاحبة الجلالة وقتها لم تكن قد عرفت ظاهرة الصحفى الأوحد المقرب حاصد جميع الجوائز ومحتكر الأخبار!!!.
المقال الرابع
على حافة الهاوية
سؤال أزلي عادة ما يتردد في ذكرى ثورة عام 1952 ...هل مصر كانت غنية في عهد الأسرة العلوية وأفقرتها فترات ما بعد الثورة خاصة سنوات التحدي والكبرياء الناصرية ؟
دعنا نبدأ في إجابة هذا السؤال من الأحدث حتى نصل إلى الأقدم والأحدث الذي ننطلق منه في رحلتنا هو عام 1952 وبحسب تصريح لابراهيم عبد الهادي باشا في صحيفة المصري في 21 يوليو 1952 أي قبل يومين من الثورة فقد رد في حدة على مراسل الصحيفة بأن "الحالة الأقتصادية للبلاد سيئة " وأضاف الوزير في تصريحه أنه أثار الأمر من فوق قبة البرلمان عامي 1950 و1951 لاحظ هنا أن التصريح صادر من رجل شغل منصب وزير المالية بالإضافة لمنصب رئيس الوزراء (1948-1949)وكذلك منصب وزير المالية في حكومة النقراشي السابقة على رئاسته (1946-1947) .
بالطبع كما تبادر لك عزيزي القارىء فتصريح واحد لا يمكن أن نحكم منه على حقبة بأكملها لذلك فنقرأ معا تقرير عن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية كتبه ميريت غالي عام 1952 ..لاحظ أيضا أن ميريت غالي كان يشغل منصب وزير الشئون البلدية والقروية في حكومة نجيب الهلالي آخر وزارات الحكم الملكي وشغل نفس المنصب في حكومة علي باشا ماهر التي تشكلت بعد ثورة 1952 .
يعتبر مريت غالي في تقريره أن الزيادة السكانية والتي لا يقابلها نمو اقتصادي مماثل هي المسؤول الأول عن تراجع الوضع الاقتصادي المصري على صعيد القطاعين الزراعي والصناعي حيث " تضاعف عدد السكان في القطر المصري منذ أوائل القرن الحاضر فقفزوا من عشرة ملايين إلى ما يزيد عن عشرين مليونا في نصف قرن" فيما زادت المساحة المساحة المزروعة في نفس المدة بنسبة 10% وزادت مساحة الحاصلات بنسبة 25% تقريبا ولم يتغير في جملته متوسط محصول الفدان من مختلف الحاصلات فإذا ما قورنت هذه النسب بزيادة السكان التي بلغت 100% ظهر مدى النقص الذي يعانيه الشعب المصري في موارده الزراعية فقد بلغ هذا النقص الثلث تقريبا بمعنى أن متوسط حصة كل فرد من السكان من الإنتاج الزراعي لم يبلغ الآن إلا ثلثي من كان عليه منذ خمسين عاما ..
كما يتحدث التقرير عن هبوط إيراد أهل الريف وكذلك مستوى معيشتهم بسبب كثرة الأيدي العاملة وقلة الأرض المنزرعة..
وعلى المستوى المعيشي فلا يوجد تحسن في مستوى ملبس أهل الريف وفيما يخص تغذية السكان في مصر فيعتمد على الاستيراد الضخم للمواد الغذائية كالحبوب واللحم والسكر والبذور الزيتية وسط نقص في الإنتاج المحلي وعجز عن سد حاجة السكان ..وكأن الرجل يقرأ المستقبل فيتحدث عن أثر ذلك كخسارة مادية فضلا عن احتمال قيام حرب تقطع عنا سبل التموين !!.
وفي القطاع الصناعي يتحدث عن أن نسبة المشتغلين بالصناعة مالت إلى النقصان وأن المصانع الحديثة قضت على كثير من الصناعات اليدوية والمنزلية ..
ويلخص الرجل أصل الداء في أن "الطاقة الإنتاجية في الزراعة والصناعة معا لم تلحق في أي وقت بنمو السكان فضاق ميدان العمل المنتج أمام كثرة الناس بدل من أن يتسع ".
ويتحدث التقرير عن التطور في إنشاء مساكن صحية للمزارعين والعمال في أولى مراحله وأن هناك خطوات مثل توفير الماء النقي في القرى تأخرت كثيرا عما كان مقدرا لها من وقت (لاحظ أننا في 1952 ولازلنا في البداية في كل إصلاح وببطء شديد).
كما أشار أيضا إلى مشكلة البطالة في المدن والتي تشكل ضغطا على التوظيف الحكومي مما يمثل تحديا أمام أي حكومة ويخلق طائفة من الحاقدين على النظام القائم الذي لم يف بوعوده للنشأ الجديد ولم يحقق لهم ما علقوا من آمال على الشهادات التي سعوا إليها بتشجيع منه (لاحظ هنا أن التملص من ربط التعليم بالتوظيف وتخريج طوابير من العاطلين من حملة الشهادات بدأ من العهد الملكي ).
وحتى نستكمل الصورة فماذا عن حالة المواصلات بمصر ؟ونجيب على هذا السؤال من مجلة المصور في 11 سبتمبر 1942 حيث جاء تصريح معالي عبد الفتاح الطويل باشا وزير المواصلات (يقال أنه كان واسطة عبد الناصر في دخول الكلية الحربية )عن سعي الوزارة الشعبية (يقصد الوفد) لتسهيل المواصلات حيث نقلت المجلة صورا مخيبة للآمال تشعرك وكأننا في الألفينات وليس في الزمن الجميل كما يصوره البعض فمركبات الترام مزدحمة عن آخرها ولم يبق على سلمها موضع لقدم حتى الكمساري لم يجد لنفسه غير مكان لقدم واحدة على سلم العربة وكذلك الحال في سيارات الأجرة وتتساءل المجلة "أما لهذا الحال من آخر ...متى تنتظم المواصلات في العاصمة فيشعر