آخر الموثقات

  • ق.ق.ج/ الكرسي المقابل
  • ق.ق.ج/ سلالة الغبار
  • الرفض الجدي..
  • قائمة الأسماء..
  • حرة أنا …
  • أرواح شاهدة
  • احلام بلا اجنحة
  • على بركان
  • تزهر قلوبنا
  • فقدان الإحساس مرعب
  • ويبقى الحُبُّ ما بَقي العِتاب
  • ق.ق.ج/ الكوب الفارغ
  • ق.ق.ج / ريش متناثر
  • فنون البعاد
  • غربة والتماس
  • القلب ميت
  • رسالة لم تصل إليك
  • ق.ق.ج/ بئر العينين
  • مكانة الأسياد ..
  • تقوى الله محرك مهنة الطب
  1. الرئيسية
  2. مركز التـدوين و التوثيـق ✔
  3. المدونات الموثقة
  4. مدونة محمد فتحي
  5. صفحات من التاريخ الأخلاقي بمصر

إهداء

إلى روح أخي العزيز الأستاذ أحمد فتحي عبد العال الذي طالما حلم بأن يكون له كتابا في التاريخ يحمل اسمه ...أحلام وأماني مشروعة حال بينه وبين تحقيقها المرض .

أهديه هذا الكتاب وهو في دار الحق راجيا أن يكون علما نافعا في ميزان حسناته قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( سبع يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته :من عَلّم علماً, أو أجرى نهراً , أو حفر بئراً , أو غرس نخلاً , أو بني مسجداً , أو ورّث مصحفاً , أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته ) حسنه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع برقم :3596

مقدمة

في صباي كنت لازلت لم أدخل المدرسة وقد بلغت السبع سنوات ومع ذلك كنت تواقا أن أسبق عمري فكنت دائما ما أخذ كتب أخي الأكبر وكان أكبر مني بخمس سنوات رحمه الله وأطالعها ..كان كتاب التاريخ للصف السادس الابتدائي وقتها مثيرا لي صحيح لم أكن ملما بالقراءة بالدرجة الكافية لكن الصور كانت كافية لتثير شهيتي للمعرفة التاريخية خاصة صور سعد زغلول ومشاهد ثورة عام 1919 فبدأت أسأل وأفهم وأشاهد الأفلام التي تحكي هذه الفترة على التلفاز ودفعني الفضول لما هو أكبر فقررت أن أقوم بالنشاط المدرسي بالكتاب بنفسي والذي تضمن ما نسميه اليوم البحث الميداني وسط المعمرين من الأهل عن ذكرياتهم عن ثورة 1919 ولكن في دائرة إمكانياتي العمرية المتواضعة ..

بالطبع لا يعرف هذه الأحداث سوى الأجداد وكان جدي لأبي رحمة الله عليه لا زال على قيد الحياة وكنا عادة ما نقضي شهر رمضان معه بقريتنا فسألته عن ذكرياته عن ثورة 1919؟! فبدأ يحكي لي قصص ممتعة عن الثورة والتضحية وصور الفداء وكأنه من صناعها أو أحد شهودها القريبين جدا . ومضت السنوات وكبرت ورحل جدي لكن ما قصه علي لازلت أذكره وحينما أتيح لي أن أقرأ عن كثب حقائق هذه الثورة وقد أصبح جل مصادرها متاحا وجدت أن ما حكاه لي جدي كان مبالغا فيه في أحيان كثيرة كما اكتشفت أن سنه وقتها كان ثمانية أعوام وهو عمر صغير لا يسمح بتمييز الكثير من الأحداث و التفاصيل فضلا عن أن الثورة لم تطرق أبواب قريتنا البسيطة!!...لا أتحامل على جدي الفلاح الطيب فالرجل ببساطته أراد ألا يخذلني وأنا طفل صغير وحكى لي ما ربما سمعه ممن هم أكبر منه وعايشوا هذه الثورة في المدن والقرى القريبة.لكن خرجت من قصة جدي بدرس مهم أن التاريخ حمال أوجه الكل يرويه بعلم وبدون والكل يحن إلى الماضي السابق عليه وإن لم يعايشه ويحمله ما لا يحتمل من المثالية المفرطة والأخلاق العالية .

الصور عن الزمن الماضي دائما براقة وجميلة لأنها التقطت في أعلى درجات الاستعداد والجاهزية الابتسامة فيها قد تكون من القلب وقد تكون مصطنعة ويرقد خلفها خفايا وأسرار تتكشف حينما نعود للتاريخ كما هو نتنفسه كما تنفسه صناعه ومعاصروه وقتها سنعرف الحقيقة أو الصورة الأقرب للحقيقة بعيدا عن المثالية فالمثالية غاية لا تدرك وان ترى الماضي على حقيقته كفيلا بأن تصحح أخطائه المتراكمة أمد الدهر والتي نظنها وليدة اللحظة الراهنة..

إن ما اكتبه في هذه الصفحات هو مجرد دردشة أو لحظات من الصراحة النفسية والصدق مع الذات ربما أحتاجها أنا أكثر من أي أحد آخر وليست بهدف تقديم عملا أكاديميا أو بحثيا أو لربط التاريخ بالعلم كما كان دأبي في الأعمال السابقة ولا سعيا لتغيير قناعاتك سيدي القارئ .

وسأعتمد هنا على مذكرات وكتب منها المتداول ومنها غير المتداول ووقع تحت يدي من باعة الكتب القديمة بما يحقق جلاء الصورة التاريخية ومصداقيتها قدر الإمكان وبما يشبع الشغف التاريخي الخلاق.

                 والله من وراء القصد د.محمد فتحي عبد العال

الحلقة الأولى

المواطن والكمسري

حمل لنا هذا العام (2021)حوادث مؤسفة كان مسرحها قطارات هيئة السكك الحديدية في مصر وأبطالها المواطنين ومحصلي التذاكر وصفحات التواصل الاجتماعي ونخص بالذكر حادثتين كانتا الأبرز على الساحة.شهدت الحادثة الأولى تنمر كمسري قطار (المنصورة -القاهرة) على مجند بالقوات المسلحة لعدم قدرة الأخير على دفع التذكرة وانتهت المشادة بينهما بتدخل سيدة لدفع ثمن التذكرة ونالت التكريم اللائق من الدولة المصرية أما الحادثة الثانية فكانت بقطار (منوف -طنطا) حيث وصلت المشادة بين الكمسري والراكب إلى حد صفع الكمسري للراكب أمام ابنته بحسب شهادة الشهود وذلك لعجزه عن دفع غرامة مالية طالبه بها كمسري القطار حيث استقل القطار لمحطة إضافية وقد نال الراكب تكريما إنسانيا من رئيس الجمهورية الرئيس عبد الفتاح السيسي بدعوته للمؤتمر الأول لحياة كريمة .

دائما ما يتبع هذه المشاهد التي تكشف عن أزمة أخلاقية تجتاح المجتمع المصري حنينا إلى الماضي فندور نبحث بين جنباته عن أمثلة مغايرة لواقعنا ملئها الأخلاق الحميدة والمبادئ العالية ونظن الماضي دوما واحة غناء لجنة باسقة عمادها ينابيع المثالية المفقودة الآن لكن اللافت أن الماضي أحيانا يتمرد على رهاناتنا ويحمل لنا صورا مماثلة وطبق الأصل لما نفر منه و الواحة التي ظنناها كانت في حقيقتها سراب ولتكن حوادث المشاكسات بين محصلي التذاكر والمواطنين مثالا جليا على ما نقول ففي العدد 1932 من صحيفة المؤيد في 2 أغسطس 1896 يسوق لنا واقعة طريفة حدثت في 28 يوليو من نفس العام.

وقبل أن نمضي للواقعة لزاما أن نعرف ما هي صحيفة المؤيد؟! والتي توارت عن الظهور منذ زمن بعيد وهي إحدى المحطات الأولى للصحافة المصرية الوطنية إذ أنشأها الشيخ علي يوسف في الأول من ديسمبر عام 1889 وهو الصحفي المقرب من الخديوي عباس حلمي الثاني لتكون لسان حال الحركة الوطنية المطالبة بجلاء المحتل الانجليزي ولتكون في مواجهة صحيفة المقطم المدعومة من المحتل .

خلاصة الواقعة التي تنقلها لنا الصحيفة في صورة شكوى أن مشادة وقعت بين الراكب حسن بك عبد الرحمن أباظة -القاصد بندر الزقازيق- وبين مفتش التذاكر حامد أفندي حلمي -الغيور على قوانين المصلحة والمكدر لصفو راحة الركاب بحسب وصف الصحيفة-ذلك أن الراكب من فرط تعجله ركب من محطة أبو الشقوق (يقصد غالبا قرية أبو الشقوق التابعة لمركز كفر صقر بمحافظة الشرقية) دون تذكرة فأراد المفتش تحصيل تذكرة طاق ونصف من المنصورة (غرامة مرة ونصف ) فحاول الراكب بلطف إقناع المفتش أنه ركب من محطة أبو الشقوق مستشهدا بمصطفى أفندي رياض معاون محطة المنصورة والراكب معه لكن المفتش رفض تفهم المسألة واحتدم الأمر وتطور إلى التطاول على مقام البك الراكب وعلى معاون محطة المنصورة بعبارات السفه والوقاحة من جانب المفتش بحسب الصحيفة وتم رفع الأمر إلى إسكندر بك فهمي مأمور إدارة السكك الحديدية (تولى رئاسة مجلس إدارة السكك الحديدية بعد ذلك في الفترة من 1898-1905).

الطريف أن الصحيفة ترصد أنها ليست المرة الأولى التي تحدث فيها مثل هذه الحوادث والأدهى أنها من نفس المفتش ولكن تجاه الشيخ أحمد الحملاوي أستاذ اللغة العربية في مدرسة المنصورة الأميرية ولمن لا يعرف الشيخ أحمد الحملاوي فهو أديب وشاعر بارز وناظر مدرسة عثمان باشا ماهر لربع قرن من الزمان والتي تقع في 19 شارع محمد کُريم والمُتاخمة لقصر الأمير المملوکي "يشبك بن مهدي" وهي من المدارس التي تعكس النهضة التعليمية إبان عهد الخديوي عباس حلمي الثاني حيث كان يتم فيها تدريس العلوم الدينية جنبا إلى جنب العلوم الحديثة وللشيخ الحملاوي كتاب في البلاغة هو (زهر الربيع في المعاني و البيان والبديع) كان أحد أسباب عدم استكمالي للدراسة بمعهد الدراسات الصوفية لصعوبته .

نعود إلى موضوعنا والذي نرى العزاء فيه هو أن الركاب في الأزمنة القديمة والحديثة هم الطرف الأكثر تضررا وفي الوقت ذاته الأكثر امتلاكا لزمام أنفسهم فلا يقابلون الإساءة بإساءة مثلها بل يسلكوا الطريق القويم في رفع شكواهم عبر الصحف قديما ووسائل التواصل الاجتماعي حديثا للجهات المختصة والتي يقع عليها المسؤولية في ضرورة إعداد السائقين والموظفين لديها فنيا و سلوكيا ومراقبة أدائهم وضرورة وجود دورات تدريبية مستمرة لهم لطريقة التعامل مع الجمهور وكسب ثقته وعلاج المشكلات وفق أطر علمية ومهنية فالخصم من الراتب والنقل ليس علاجا باترا.

لا ينبغي أن نغض الطرف طويلا عن مثل هذه المشكلات التي قد تقتل حرفيا الناس نفسيا وعصبيا ولنا في وفاة فيلسوف الرواية وفارس الرومانسية الأديب الكبير (محمد عبد الحليم عبد الله) أبو الجوائز وصاحب الروائع الأدبية كلقيطة وشجرة اللبلاب والذي توفى عام 1970 جراء خلاف مع سائق تاكسي كان يجهل شخصيته على خمس قروش فقط زيادة في الأجرة!! أدت لإصابة الأديب بنوبة عصبية وانفجار بالمخ مات على أثره .

الحلقة الثانية

قم للمعلم

واقع نراه كل يوم في مدارسنا من غياب دور المعلم المؤهل ولهثه في أثر الدروس الخصوصية وتردي الوضع الأخلاقي والمعرفي لدى النشء وسوء حالة المدارس فنتحسر على زمن فات أنشد فيه أمير الشعراء أحمد شوقي قائلا :

"قُـمْ للمعلّمِ وَفِّـهِ التبجيـلا. كـادَ المعلّمُ أن يكونَ رسولا. أعلمتَ أشرفَ أو أجلَّ من الذي. يبني وينشئُ أنفـساً وعقولا".

فهل كانت صورة المعلم الملقى على عاتقه هذه المهمة الجليلة في الماضي تختلف عن واقعنا الحالي؟! ...

ضغطة زر على التلفاز لمشاهدة فيلم غزل البنات عام 1949 للعبقري نجيب الريحاني ورؤية الأستاذ حمام الرث الثياب والذي يشكو حظه العاثر والمشاهد التي تجمعه بالطلاب في الفصل وضعفهم الواضح في اللغة العربية وتهكم الباشا وابنته على هيئته المتواضعة .. حتى تلقيب المعلم بكلمة "خوجة أفندي" وهي بالتركية تعنى أستاذ تحولت مع الوقت إلى مسمى يقلل من شأنه وحوار السيد عبد الجواد مع ابنه كمال في رائعة نجيب محفوظ "قصر الشوق" دليلا على ذلك ..ربما لا تعير عزيزي القارئ هذه المشاهد انتباها ولا تعتبرها سوى مادة للضحك والفكاهة ولا تصلح مناطا للحكم على العملية التعليمية في مصر إبان هذه الحقبة من تاريخها لكنها وللأسف كانت أصدق الصور عن واقع المعلم والعملية التعليمية برمتها والتي بدأت تتداعى.

وأنا بالمرحلة الإعدادية عام 1994 كان بالمدرسة معلما قبطيا شديد الطيبة ومن شدة تسامحه وقع فريسة دائمة للتهكم من جانب الطلاب دفعته في النهاية للهجرة لكندا وترك مصر نهائيا لا يختلف المشهد كثيرا لو عدنا لعام 1873 ومع عودة الخديوي إسماعيل من الآستانة في صورة الفاتح المظفر بفرمان الامتيازات من الباب العالي فاستقبلته المدن المصرية بالزينات

لمدة ثلاثة أيام ونصب تمثال محمد علي في ميدان حي المنشية بالإسكندرية وكان طبيعيا أن يدفع الفضول الأطفال للمشاركة في هذا الحدث .

هذا ما يقصه علينا أحمد شفيق باشا السكرتير الخاص للخديوي عباس حلمي الثاني ومدير ديوان الأوقاف الأهلية سابقا وذلك في مذكراته في نصف قرن وهو لازال طفلا في مدرسة المبتديان (مكانها المدرسة السنية) التي كانت تحت إشراف ولي العهد آنذاك توفيق باشا ..

حدث خلاف بين الطلاب وناظر المدرسة أحمد بك عبيد الطهطاوي أحد المتعلمين الذين أرسلهم محمد علي باشا لفرنسا في نفس البعثة التي ضمت رفاعة الطهطاوي وعاد منها ضليعا في الفرنسية ويمتلك جاموسة يحلبها للحصول على لبنها ( كانت هذه هي الطريقة للحصول على الحليب الطازج بشكل يومي حتى أن بائع الحليب كان يصطحب جاموسته أو بقرته في الشارع ويتم الحلب على مرأى من زبائنه)

وتحت عنوان "أول إضراب في مدرسة أميرية" يستكمل شفيق باشا ذكرياته عن هذه الحادثة أن رفض الناظر لخروج الطلاب يوم الزينة وكذلك ضباط المدرسة دفعهم للتظاهر مرددين هتافهم ضد الناظر : "جاموسة طهطاوي تتكلم بالفرنسية" ...هذه القصة وإن بدت بسيطة إلا أنها تكشف عن صورة من صور عدم احترام المعلم في شخص هذا الناظر و النكران لحرصه على استمرار العملية التعليمية وعدم انخراط الطلاب في اللهو والعبث ومما لا طائل منه ويتضح ذلك في موقف نظارة المعارف التي انتصرت لرغبة الطلاب على حساب احترام المعلم وأمرت بخروجهم لمشاهدة الزينات وهل يعلو أمر على زينات الخديوي !!! .

نأتي إلى سؤال آخر : من منا في طفولته لم يتعرض لمضايقات بعض المعلمين ؟!ومن منا لم يشكو قسوة معلم في الفصل لوالديه ؟!ومن منا لم يتلق هذه الإجابة من والديه ؟! "إن المعلم يتطلع لدرس خصوصي يا بني لهذا فهو يقسو عليك لدفعك لهذا الدرس" !..الحقيقة أنها إجابة تلقيتها أنا أيضا من أبي حينما شكوت له تهكم مدرس الرياضيات علي لوزني الزائد آنذاك .

لقد تعرض صليب باشا سامي السياسي القبطي البارز والذي تولى حقائب هامة كالخارجية والحربية والتموين والتجارة والصناعة لمثال من هذه المضايقات في طفولته ففي مذكراته يحكي عن موقف تعرض له وهو طالب بالمدرسة التوفيقية وكان مقرها قصر النزهة بشبرا من مدرس اللغة العربية المنوفي المنشأ وكان " فظ الطباع عنيف العبارة مع الطلاب" والطفل صليب بالأخص فكان "يخصه بأدنى الدرجات" وينصحه بعبارات على شاكلة :"طبعا هو أنت فالح روح ألعب مع النسوان وأعمل لهم خدام كمان وبعدها تسقط في الامتحان ويبقى ينفعوك النسوان في آخر الزمان " .

شكوى صليب لوالده جعلته يحتوي الموضوع بجلب الشيخ لإعطاء دروس خصوصية لابنه الصغير الذي كان متوقد الذهن فأراد اختبار سلامة ذمة الشيخ ذات يوم فاستغل سهو الشيخ بأن طلب منه كتابة موضوع إنشاء سبق أن طلبه منه في المدرسة ومنحه عليه أربع درجات من ست عشرة درجة فإذا بالطفل صليب يقدم له صورة طبق الأصل مما كتبه في السابق وحصل على هذه الدرجة المتدنية نتاجه فإذا بالشيخ يعطيه هذه المرة عشرة درجات فكشف الطفل للشيخ أنه نفس الموضوع فلما رفعت درجته من أربع درجات بالمدرسة إلى عشر درجات بالدرس الخصوصي الآن ؟!! فكان تعقيب الشيخ غاية في البرود :"وهل تظن أنك تستحق حقا عشر درجات إنما أردت أن أشجعك فحسب "

لم تكن الدروس الخصوصية بهذه السهولة فكان يتوجب على المعلم أن يأخذ إذن من وزارة المعارف العمومية على استمارة "طلب ترخيص بمباشرة أعمال خارجة عن حدود وظيفة المستخدم"مع إقرار من ولي أمر التلميذ بموافقته على إعطاء الدرس بمنزل الطالب أو بمنزل المعلم .

أما عن وسائل العقاب قديما في الكتاتيب والمدارس فهي قاب قوسين أو أدني من كونها وسائل للتعذيب والإرهاب لا للتقويم والإرشاد ففي مذكرات الأديب والصحفي والمحامي (محمد لطفى جمعة ) والتي حملت عنوان (شاهد على العصر ) يتحدث عن الجريدة والزخمة كأدوات تعذيب "لا تهذيب الأطفال" مما ترك أثرا سيئا في نفسه لا يمحى و دفعه للهروب من الكتاب مرات عدة والانتحار بوضع طرف ثوبه على نار الكانون !! كما يتحدث عن الظلم الذي تعرض له ذات مرة لضحكه على أمر ظنه من قبيل النكتة فيقول "صمم شيخ اسمه أبو الشدائد أن يعاقبني بالضرب مائة مرة على كفى لأنني ضحكت عندما سمعت للمرة الأولى لفظ كان وأخواتها"

ومن الضلعين الأساسيين في العملية التعليمية المعلم والطالب وعلاقتهما نتطلع للضلع الثالث وهو المحتوى العلمي والعملية التعليمية برمتها .

في كتابه "مبادئ السياسية المصرية" والصادر عام 1942 يكشف محمد علي باشا علوبة والذي شغل منصب وزير المعارف عام 1936 عن عوامل الفشل داخل المنظومة التعليمية بداية من المدارس الإلزامية التي بدأت منذ وقت مبكر عام 1917حينما كان عدلي يكن باشا يشغل وزارة المعارف لمحو الأمية فالمدارس تبنى على عجل دون تدريب للمعلم وإعداد كاف له ولأن هذه المدارس كانت تقدم الحد الأدنى من التعليم لطلابها الفقراء وبعدها ينطلقوا لمساعدة أهليهم إلا أنها لم تنجح في إخراج هؤلاء الأطفال المساكين وهم سواد الأمة من وضعهم المزري إلى واقع مغاير وهو ينقل عن وزارة المعارف تقريرها عن حالة هؤلاء الأطفال :

"حالة مؤلمة ومثيرة للنفس لما يبدو على هؤلاء الأطفال من بؤس يبعثه الفقر والجوع والحرمان ويزيده ضعف البنية وتغلغل الأمراض الفتاكة .ويضاعف بؤسهم ما تراه في أيديهم وفي ملابسهم من القذارة التي تشمئز منها النفس وما تشاهده على وجوههم من دلائل النفور من الدراسة والرغبة في العمل" .إضافة لذلك لم تكن هذه المدارس تخصصية بالشكل الذي يواكب بيئة الطالب سواء أكانت صناعية أو زراعية أو تجارية حتى تفيده في حياته العملية لذلك كان من رأي الباشا إطالة مدة الدراسة لتكون من ثلاث سنوات لخمس سنوات "وتكون السنتين الأخيرتين للتخصص في المعلومات الأولية لبيئة الأطفال بما يعود بالفائدة على الطفل ووسطه".

كما يتحدث الوزير السابق عن فشل الوزارة في تقرير نظام محدد للتعليم الثانوي أسوة باستقرار النظام الابتدائي وتحديد مدته ونظامه "فهو محل تجارب وعرضة للتغيير والتبديل" ومن حسن حظ الباشا أنه لم يعاصر زماننا لوجد أن النظام بأكمله صار مضرب الأمثال في التجريب بين الإبقاء على الصف السادس الابتدائي أو إلغائه وتحويل الثانوية العامة من سنة واحدة لسنتين والرغبة في تحويلها لثلاث سنوات ثم العودة بها لسنة واحدة !!.

كما يتحدث عن حشو المناهج بما لا يفيد الطالب في مرحلة من المفترض أن يضيف فيها لمعارفه وثقافته العامة في الرياضة و الأخلاق والقيم فإذا بالوزارة تثقل كاهله بموضوعات ماذا عصاه أن يصنع بها كاللوغاريتم مثلا ؟! فيقول متحديا : "وإني أتحدى كل شخص يمكنه أن يثبت لي أن واحدا من ألف تلميذ يعلم بعد خروجه من المدارس الثانوية في دور الثقافة معنى اللوغاريتم مثلا ما هو ؟ وما الغرض منه ؟"

كم كنت مندهشا وأن اقرأ عبارات الوزير التي تستغرب أهمية اللوغاريتم فهو نفس تساؤلي تماما وأنا في المرحلة الثانوية لكني زدت على ذلك الرغبة في معرفة لماذا أدرس الدالتين الجيب وجيب التمام والتوابع ظل (ظا)، ظل تمام(ظتا)، قاطع (قا)، وقاطع تمام (قتا) ؟!! وأحاول أن أفهم مغزاها وفائدتها لي إلى حد أن قررت أن أرجع لكتب تدريس اليونسكو للرياضيات الحديثة في مصر في السبعينات لأفهم من أين نشأت ؟!!فوجدت أكواما من المثلثات زادت الأمر أمامي تعقيدا وجعلتني أغادر الرياضيات بشكل كامل دون عودة .

الأكثر أهمية في هذا الكتاب ما أشار له الباشا من ضعف تدريس اللغات الأجنبية في مصر "وأن المتخرج عاجزا عن التعبير عن آرائه البسيطة وغير قادر على أن يكتب خطابا بأية لغة " وهو أمر مستمر إلى يومنا هذا وإذا أضفنا لذلك جمود اللغة العربية والذي أشار له شفيق باشا في مذكراته في نصف قرن أصبح تشخيص الداء واضحا فيما يتعلق باللغات وضرورة تطوير سبل دراستها والإلمام بنطقها الصحيح والتعود على ممارستها بالمدرسة وخارجها وضرورة اختزال قواعد النحو والإملاء الخاصين باللغة العربية.

الملاحظ في هذا الكتاب أنه يقص نسخة كربونية من واقعنا التعليمي فجمود اللغة العربية وصعوبتها وضعف الطلاب في اللغات الأجنبية وازدحام الفصول وضعف البنية الصحية للطلاب وهي مسائل بات من الواضح أننا تركناها وغيرها دون حل فظلت تتراكم مع الوقت حتى وصلنا إلى ما نحن فيه من جمود بطبيعة الحال كانت إجادة اللغات من شروط الالتحاق بالوظائف وزيادة الرواتب فهل تعلم عزيزي القارىء أن راتب السواق في الجيش الإنجليزي طبقا لإعلان عام 1918 عن الحاجة لمائة سائق كانت 3 جنيهات مع الأكل والملابس والمبيت في أكواخ وخيام أثناء التدريب بمدرسة السواقة في الزيتون لكنها تزيد بعد التدريب لتصبح من 6-10 جنيهات شريطة اجتياز الامتحان التحريري للغة الإنجليزية.

لذلك فالحلول واضحة وهي إعداد المعلم والإنفاق على تعليمه أولا وتدريبه وتزويده بالأساليب العصرية للتعامل مع الطلاب وإرشادهم بعيدا عن الضرب والعنف وأن تهدف المناهج الدراسية إلى تعليم الطالب أساليب البحث وليس الحفظ والتلقين وأن تكون كافية لتزويده بالمعلومات الأساسية والقيم والأخلاق والمبادئ التي تصنع منه فردا نافعا و تعينه على التفاعل مع مجتمعه وليس تكديسا لعلوم من كل حدب وصوب مكانها هو مرحلة التخصص في الجامعات والمعاهد العليا وإننا أحوج في هذه الفترة لالتماس هذه السبل مع شيوع الجرائم البشعة بين أوساط المتعلمين تعليما عاليا فما فائدة التعليم إن لم يعالج مشاكل المجتمع الحقيقية ويلبي احتياجاته؟! .

وفي ختام مبحثي هذا أود أن أشير أن

أكثر فترات التعليم استحقاقا للدراسة وتسليط الضوء عليها في وجهة نظري كباحث وكواحد من هواة اقتناء الكتب القديمة في مطلع القرن الماضي وهي للأسف مصدرنا الآن للوقوف على حال التعليم في الماضي نظرا لندرة الدراسات في هذا المضمار هي فترة حكم الملك فؤاد والتي امتدت من 1917 وحتى عام 1936

فقد كان الملك فؤاد شغوفا جدا بالعلم والمعرفة ومتابعا لكل ما هو جديد بأوربا وشديد العناية بتدريب المعلمين والمعلمات والاهتمام بتدريس الأخلاق في المدارس فنجد كتاب للأخلاق للأستاذ أحمد أمين مقررا على الطلبة عام 1929 وقد استعرضته بشكل تفصيلي في كتابي "مرآة التاريخ" كما نجد كتاب "الرحلة العلمية لناظرات المدارس الأميرية إلى أوربا "في صيف عام 1926 بقلم سنية عزمي ناظرة مدرسة المعلمات الأميرية ببولاق وبرنامج الرحلة تضمن دراسة جغرافيا العالم والجغرافيا الداخلية . قد تبدو لك عزيزي القارئ أن الجغرافيا ليست بكل هذه الأهمية للذهاب لأوربا للاطلاع على مستجداتها ولكن ستدهش حين تعلم أن أي كتاب عن منابع النيل كان يسارع الملك فؤاد للعناية به وترجمته وتدريسه إضافة أن الأطلس المدرسي كان يطبع بمعرفة جورج فلب بلندن كما يظهر من غلاف الأطلس الابتدائي في طبعته الأولى عام 1926 بإشراف ومعاونة محمد عوض إبراهيم بك ومحمد فهيم بك بوزارة المعارف العمومية كما عقد المؤتمر الجغرافي في إبريل عام 1925 بحضور الملك فؤاد و أحمد زيور باشا رئيس الوزراء ومندوبين عن فرنسا وإيطاليا وأمريكا واليابان فيما لم توجه الدعوة لألمانيا مما آثار سخطها والطريف أن لغة هذه المؤتمرات كانت الفرنسية والإنجليزية والإيطالية وسط غياب للغة العربية لغة البلاد الرسمية والسبب واضح أن الملك فؤاد لم يكن يتقن اللغة العربية لغة البلاد التي يحكمها!!!.

 .البعثات الخارجية شملت كافة التخصصات حتى الطهي فنظيرة نيقولا صاحبة أشهر موسوعة للطهي كانت في بعثة بجامعة جلوستر بانجلترا في فنون الطهي وشغل الإبرة وذلك عام 1926 ولا ننسى زيارة الملك فؤاد للدارسين من المصريين بجامعة مانشستر ببريطانيا عام 1927 والوقوف على أحوالهم.

وضع ومكانة المرأة في عهد الملك فؤاد بصورة عامة وصل إلى حد الأعجاز فمتابعة بسيطة لأعداد مجلة العروسة التي صدرت في الثلاثينات وهي من إبداعات (إسكندر مكاريوس) صاحب مجلة (اللطائف المصورة) الشهيرة قد تكشف لك وجها لمصر لم تعرفه من قبل ففي عددها في 13مايو 1931 نتعرف على شموس النهضة الصحيحة في مصر وفتيات مصر الناهضات المسافرات إلى أوربا لتحصيل العلم بانجلترا تتصدرهم صورة المربية والأديبة (منيرة صبرى) مفتشة التربية البدنية في وزارة المعارف العمومية في ثوبها الرسمى الخاص بكبيرة المرشدات وفي 19 أغسطس 1931 نتعرف على السباحة الماهرة (حياة صفوت) ورحلتها الجريئة للسباحة من دمياط لرأس البر وفي عددها في 11 اكتوبر 1933 تتعرف على أول مصرية تحرز شهادة طيران دولية وهي (لطيفة النادي) .

ولا ننس الرائدة الموسيقية ومعلمة البيانو التي جابت أنحاء مصر لتعليم البيانو (ماتيلدا عبد المسيح) صاحبة ألحان مارش الملك فؤاد والذي غنته التونسية (حبيبه مسيكه) الذي تقول في مطلعه " ملوك الملوك يدوم علاك

أمل الوجود هو رضاك

الله يزيدك في بهاك

للأمة في كل الدهور

في عز دايم وصفو تامم

مولانا يا صاحب الجلالة

يا من ضمنت لنا العدالة

رب الكرم رب البسالة

عصرك يفوق كل العصور

في علم زاهر ورقي باهر

يحيى الملك ويدوم صفاه"

المثير أيضا في هذه الفترة السعي نحو مكافحة العامية فنرى كتاب "الخلاصة المرضية في الكلمات العامية وما يرادفها من العربية لتلاميذ وتلميذات المدارس" بقلم عبد الرءوف إبراهيم رئيس مدرسة محمد سعيد الأولية الأميرية بالبغالة وسيد على الألفي رئيس مدرسة السلحدار بالجامع الأحمر عام 1924 فنرى المادة العلمية مقسمة قسمين أحدهما للبنين والآخر للبنات وموضوعة في جداول: الكلمة العامية بالجدول مثلا "أجزجي" وما يرادفها بالعربية "صيدلاني" ثم تطبيق عليها "أعطاني الصيدلاني الدواء".

وجه الملك فؤاد عناية بالغة بالفنون فأنشأ المعهد الملكي للموسيقى العربية عام 1921 كما استضاف مؤتمر الموسيقى العربية برعايته والذي أقيم بالقاهرة عام 1932 وعزفت فيه فرقة العقاد الكبير وفرقة الآنسة أم كلثوم ( غنت أم كلثوم للملك فؤاد والملك فاروق وسعد زغلول

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

إحصائيات متنوعة مركز التدوين و التوثيق

المدونات العشر الأولى طبقا لنقاط تقييم الأدآء 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية) 

الترتيبالتغيرالكاتبالمدونة
1↓الكاتبمدونة نهلة حمودة
2↓الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب
3↓الكاتبمدونة ياسمين رحمي
4↓الكاتبمدونة محمد شحاتة
5↓الكاتبمدونة غازي جابر
6↓الكاتبمدونة خالد العامري
7↓الكاتبمدونة ياسر سلمي
8↓الكاتبمدونة هند حمدي
9↑5الكاتبمدونة خالد دومه
10↓-1الكاتبمدونة حنان صلاح الدين
 spacetaor

اگثر عشر مدونات تقدما في الترتيب 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية)

#الصعودالكاتبالمدونةالترتيب
1↑19الكاتبمدونة منى كمال217
2↑16الكاتبمدونة يوستينا الفي75
3↑14الكاتبمدونة محمد فتحي129
4↑10الكاتبمدونة طه عبد الوهاب147
5↑10الكاتبمدونة وسام عسكر214
6↑8الكاتبمدونة عطا الله حسب الله137
7↑8الكاتبمدونة مروة كرم144
8↑8الكاتبمدونة سارة القصبي159
9↑8الكاتبمدونة عزة الأمير170
10↑7الكاتبمدونة اسماعيل ابو زيد62
11↑7الكاتبمدونة هبة محمد194
 spacetaor

أكثر عشر مدونات تدوينا

#الكاتبالمدونةالتدوينات
1الكاتبمدونة نهلة حمودة1101
2الكاتبمدونة طلبة رضوان769
3الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب701
4الكاتبمدونة ياسر سلمي666
5الكاتبمدونة اشرف الكرم585
6الكاتبمدونة مريم توركان573
7الكاتبمدونة آيه الغمري510
8الكاتبمدونة فاطمة البسريني432
9الكاتبمدونة حنان صلاح الدين423
10الكاتبمدونة شادي الربابعة406

spacetaor

أكثر عشر مدونات قراءة

#الكاتبالمدونةالمشاهدات
1الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب350831
2الكاتبمدونة نهلة حمودة205362
3الكاتبمدونة ياسر سلمي190494
4الكاتبمدونة زينب حمدي176737
5الكاتبمدونة اشرف الكرم138631
6الكاتبمدونة مني امين118871
7الكاتبمدونة سمير حماد 112796
8الكاتبمدونة فيروز القطلبي103987
9الكاتبمدونة حنان صلاح الدين101404
10الكاتبمدونة مني العقدة98657

spacetaor

أحدث عشر مدونات إنضماما للمنصة 

#الكاتبالمدونةتاريخ الإنضمام
1الكاتبمدونة محمد فتحي2025-09-01
2الكاتبمدونة أحمد سيد2025-08-28
3الكاتبمدونة شيماء حسني2025-08-25
4الكاتبمدونة سارة القصبي2025-08-24
5الكاتبمدونة يوستينا الفي2025-08-08
6الكاتبمدونة منى كمال2025-07-30
7الكاتبمدونة نهاد كرارة2025-07-27
8الكاتبمدونة محمد بن زيد2025-07-25
9الكاتبمدونة ناهد بدوي2025-07-19
10الكاتبمدونة ثائر دالي2025-07-18

المتواجدون حالياً

546 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع