آخر الموثقات

  • ق.ق.ج/ بئر العينين
  • مكانة الأسياد ..
  • تقوى الله محرك مهنة الطب
  • التعليم السوداني بين العزلة وإعادة إنتاج الأمية
  • أصداء أزهري محمد على نقد متجدد للحكم في السودان 
  • معركة الكرامة: بين الخيانة والوفاء للوطن
  • بين رفقة الأحلام ورفقة التكنولوجيا أحلام تزهر بالمعرفة
  • طقوس الزواج السوداني بين الأصالة والمفارقة: من قطع الرهد إلى إشعار البنك
  • لقاء السحاب
  • يا صديقي.. لو كنا تزوجنا من زمان
  • رسالة بين القلب والعقل
  • ما وراء الغيم الأسود
  • حين عاد الصوت من الغياب
  • على حافة الفراغ.. حكاية قلب يبحث عن أنس
  • أمسية على ضفاف الذاكرة
  • تهت في عيونك
  • جاء موعد كتابتي إليك
  • عبارات مبالغ فيها لإبن تيمية
  • ابن تيمية فى مواجهة الوهابية 
  • لابوبو الجزء ٤
  1. الرئيسية
  2. مركز التـدوين و التوثيـق ✔
  3. المدونات الموثقة
  4. مدونة محمد فتحي
  5. نوستالجيا الواقع والأوهام

مقدمة

هذا الكتاب هو استمرار لما بدأته في كتابي صفحات من التاريخ الأخلاقي بمصر حول تصحيح حالة المثالية المتعلقة بالماضي ورجالاته وفي سبيل المزيد من تسليط الضوء على بعض التجارب الكتابية التربوية والأخلاقية التي لم تأخذ حقها وظلت حبيسة بين جنبات تلال من الكتب صفراء اللون خطها رجال ظنوا أنهم وضعوا عصارة أفكارهم وأحلامهم فيها أملا أن تنير الطريق لمجتمعاتهم ولمن بعدهم فإذا هي مع الوقت تحتضنها أيادي الأهمال وينهال عليها ركام من أتربة الضياع.

حصاد أعوام من البحث والتنقيب بين الكتب القديمة والصحف العتيقة أضعها بين يدي القراء متمنيا أن تكون معينا لهم في فهم التاريخ كطريق للحاضر ونواة للمستقبل .

والله من وراء القصد

د.محمد فتحي عبد العال

"لا يفقه شعب ما سر مستقبله قبل أن يتنبه شعور الاحترام فيه لمآتي أجداده ويدرك مآثر أبطاله فهنا وهنا فقط يستطيع أن يبلغ ذروة الرقي "

الملك فؤاد الأول

اليد الحديدية

مقدمة

تناولت في (كتابي على هامش التاريخ والأدب) قصة إسماعيل باشا صدقي وملامح السياسي البرجماتي لكن جوانب هذه الشخصية الثرية لا يتسع لها كتاب واحد ولا أكون متجاوزا إذا قلت أن قراءة هذه الشخصية عن كثب تعطي ملامح دقيقة عن طريقة فهم الكثير من الساسة المصريين القدامى للشعب المصري وتفسير أساليب تعاملهم معه لهذا فقد خصصت هذا الجزء للحديث عن جانب مهم من شخصية صدقي وهو ما يمكن تسميته "الديكتاتور الواقعي أو صاحب البصيرة " .

الديكتاتورية الواقعية :

"السلطة المطلقة مفسدة مطلقة " قالها السياسي البريطاني (لورد آكتن) في القرن التاسع عشر ولكنها لا تصلح وأن تتخذ قاعدة عامة فمن الممكن أن يكون صاحب السلطة فظا ولكنه يريد أن يحمل أمته على الصواب من وجهة نظره حتى وإن خالف الإجماع وخسر التأييد الشعبي وصدقي نموذجا حرفيا لذلك فهو رجل صريح للغاية في علاقته بأمته وفي علاقته بوطنه وبينهما فجوة كبيرة في عقلية الرجل فهو يؤمن بقضايا وطنه وحلولها بشكل واقعي بعيدا عن الشعارات لكن في الوقت ذاته لا يؤمن بأهلية أمته للديموقراطية ومباشرة حكم ذاتها بعيدا عن سلطة أبوية سياسية تحدد لها الطريق ثم تدفعها له دفعا.

في حديث له بصحيفة الأهرام مع (كامل الشناوي) وفي معرض إجابته عن سؤال حول اختلافه مع آراء الآخرين من النخب السياسية قال: "أن غيره يدرسون المسائل مثله وينتهون في الرأي إلى ما انتهى إليه لكن الفرق بينه وبينهم أنه حينما يتكلم يعبر عما يجول في رأسه بينما الآخرون يعبرون عما في رؤوس الجماهير" !!!

والجماهير كما صرح لمصطفى أمين كالطفل الذي يريد أن يلقي بنفسه من النافذة أو كالذي يحب "بائع الدندرمة الملوثة" فحينما تمنعه لإنقاذ حياته من منطلق المسؤولية كـأب أو طبيب قد يبكي أو يغضب ولكن حينما يشب عن الطوق سيعلم أن ما فعلته كان من أجله وسيبكي أباه حينما لا يجده جواره !!!

رجل يمحو الماضي:

كان صدقي يصف الشعب المصري بأنه شعب كل حكومة ومن هذه النظرة كان يرى أن باستطاعته إعادة تشكيل الحاضر وفق رؤيته دون أن يضع في الاعتبار الشعب المصري وأطيافه المختلفة لذلك ليس من المستغرب أن يكون تصريحه حينما أوكلت له الوزارة كما جاء في مذكراته :" إذا تم اختياري لهذا المركز الخطير فستكون سیاستي أن أمحو الماضي بما له وما عليه، وأن أنظم الحياة النيابية تنظيماً جديداً، يتفق ورأيي في الدستور واستقرار الحكم" .

والماضي الذي يعنيه صدقي واضح بكل تأكيد فهو ذلك الميراث الليبرالي الكبير الذي خلفته ثورة عام 1919 قي النفوس وظلت الأمة تحصد ثمراته في مقاومتها للاستعمار وفي وضع دستور 1923 .

ولقد وصلت كراهيته للماضي الليبرالي إلى حد محو ذكرى مفجره ألا وهو الزعيم سعد زغلول فقد بني لسعد زغلول بعد وفاته ضريحا (دارت معركة حول هذا إقامة هذا الضريح على طراز إسلامي أو فرعوني وانتصر فيه أصحاب الطراز الفرعوني) ليتنقل رفاته إليه من الأمام الشافعي لكن صدقي كان معارضا أن يكون الضريح لشخص واحد فعرقل نقل رفات الزعيم الجليل إلى ضريحه واستبدل ذلك بنقل المومياوات الملكية الفرعونية من متحف بولاق للضريح !!!!

ولم تتوقف كراهية صدقي عند حدود الليبرالية المصرية بل امتدت إلى الجهاد في الجارة الغربية (ليبيا) ذلك أن رفيقه في الكفاح الوفدي (حمد الباسل باشا) عميد قبيلة الرماح بالفيوم والتي تمتد فروعها لليبيا والحجاز أعد في منزله سرادقا في ذكرى إعدام المجاهد الليبي (عمر المختار) في نوفمبر 1931 فهدم البوليس السرادق وحاصروا منزل الباسل ومنعوا المدعوين من الوصول إليه ووضع رجال البوليس أسلاكا شائكة لمنع مرور السيارات بأمر صدقى الذي رأى في الاحتفال بالبطولة جرم سياسي !!!

أما ترسيخ السلطة القائمة ومتمثلة في شخص الملك فؤاد فكانت على أولوياته فقد أدار صدقي مسألة تنازل الخديو المعزول (عباس حلمي الثاني) عن حقه في العرش لصالح الملك فؤاد عام 1931 في مقابل "أن تدفع الحكومة له سنويًّا مبلغ ثلاثين ألف جنيه لا تنسحب على الماضي، ولا يصرف منها شيء لأحد من ورثته بعد الوفاة".

 كان عزل عباس حلمي الثاني عام 1914 وكان وقتها في زيارة لتركيا وتعرض لمحاولة اغتيال على يد (محمود مظفر بن محمد مظفر باشا) أخرت عودته لمصر لتعذر وسائل السفر مع اندلاع الحرب العالمية الأولى فوجدت بريطانيا الفرصة سانحة لعزله.

اللافت أن العزل جاء بعد فترة ليست طويلة من حادثة دنشواي الشهيرة والذي تحدثنا عنها في كتاب (مرآة التاريخ) وكيف عوقب الأهالي كما عوقبت القرية نفسها بسحب استقلالها فلم يعد لها عمدة وألحقت بقرية (أبي كاس) المجاورة كما عوقبت الحكومة في شخص ملاحظ نقطة الشهداء (مراد أفندي محرم) الذي اتهم بالتقاعس عن الإبلاغ بوصول الضابط الإنجليزي المصاب والمتوفي بعد ذلك حيث تم فصله وفصل خفراء قرية دنشواي ولم يبق سوى معاقبة الخديو ذاته .

لكن يتضح من تعقيب الخديو عباس حلمي الثاني وقد أضحى سابقا في كتاب له بالانجليزية على مفاوضات محمد محمود باشا هندرسون 1929 وأعادت مجلة (الكشكول) نشره مرة أخرى إبان مفاوضات مصطفى باشا النحاس -هندرسون 1936 أنه استوعب الدرس فيما يخص علاقته بإنجلترا وفي تورطه في إعادة فتح السودان بأموال وأرواح مصرية غالية فقد أدرك أن بريطانيا قوة عظمى لا يستهان بها خرجت من الحرب محتفظة بوحدتها وعملتها الجنيه الإسترليني الثابت وسط العاصفة وأنها إمبراطورية تسعى للسلام والوفاق والسلم والتوازن لذا فالتحالف معها أفضل من التصادم وهو أكثر نفعا لمصر فهو يضمن وقايتها من أي اعتداء خارجي كما يوطد دعائم مركزها فتحتل مقعدا بعصبة الأمم (منظمة قبل الأمم المتحدة) وأن بقاء قوات بريطانية لحماية القناة أفضل من بناء أسطول ريثما يتم بناء جيش مصري قوي بخبرات عسكرية بريطانية ولكن على غرار الجيش السويسري وهو الجيش الوحيد الذي لا يعرف جنوده استباحة أراضي الغير .وفي مسألة السودان كان يرى أن اتفاقية السودان التي وقعت في عهده ودفع ثمنها بطرس باشا غالي رئيس النظار حياته أفضل ما تم التوصل إليه وأن بقاء الشراكة بين مصر وبريطانيا في حكم السودان أجدى من الدفع بجيش مصري وسط آتون الصراعات بالسودان يفضي به إلى الموت وزيادة عدد الموظفين المصريين أسوة بالانجليز أفضل السبل . كما يؤكد أن مصر لا تضمر نية استعمارية تجاه السودان بل تدعو لتمدنها ووجود هيئات نيابية بها والتعاون معها وأن مسائل مثل الري وحقوق مصر المائية قد استوفيت بالاتفاقية أما الزراعة فتحتاج إلى سياسة زراعية تضمن النفع للطرفين مع جعل الأولوية في الهجرة للسودان للمصريين بحكم التزايد السكاني في مصر مقارنة بسكان السودان . الطريف هو حديثه عن موقف الأقليات من المسألة المصرية فأشاد بالأقباط وموقفهم من ثورة 1919 وكذلك السوريين فيما أسف لموقف الأرمن الذين احتضنتهم مصر بعد المذبحة الأرمينية في تركيا لكنهم لم يظهروا أي اهتمام بالقضية المصرية وكذلك الحال بالنسبة للإسرائيليين الذين استفادوا من الإمتيازات الأجنبية وحماية دول كثيرة لهم آملا أن يتغير الحال مع إلغاء الامتيازات.

التصادم مع المثقفين

بادل الشعب المصري صدقي بكراهية شديدة فأطلقوا عليه (عدو الشعب) وهو وصف ظل يلاحقه في كافة الأوساط الشعبية والثقافية .

بطبيعة الحال السمات الشخصية التي تمتع بها صدقي تجعله يضيق ذرعا بالثقافة وهو الرجل ذو العقلية الاقتصادية التي تزن الأمور بميزان المنفعة لذلك فقد أحاط نفسه بالمنافقين والذين يصدون عنه أي هجوم من معارضيه عبر التشويه والترهيب.

لذا كان وضع المثقفين في عهده في غاية السوء فعوقب (عباس محمود العقاد) بالسجن تسعة أشهر بتهمة (العيب في الذات الملكية) عام 1930حيث علق في البرلمان وكان عضوا به على رفض قانون محاسبة الوزراء بقوله "وليعلم الجميع أن هذا المجلس مستعد لأن يسحق أكبر رأس فى البلاد فى سبيل صيانة الدستور وحمايته " مما اعتبر مساسا بشخص الملك فؤاد وعبثا حاول محاميه (مكرم عبيد) بأن ما قصده العقاد بأكبر رأس هو الحكومة وليس الملك لكن اليد الصارمة لصدقي كانت الأعنف ...

علاقة اسماعيل صدقي بطه حسين شابها الكثير من التوتر منذ مجيئه عميداً عام 1930 خلفا للفرنسي "ميشو" المنتهية مدته وقيل أن السبب في ذلك رفض طه حسين لمنح الدكتوراه الفخرية لعدد من السياسيين لا صلة لهم بالأدب رشحهم صدقى وقيل لرفضه لمنحها لصدقي نفسه وقيل أن السبب رفض طه حسين أن يكون رئيساً لتحرير جريدة الشعب، لسان حال حزب الشعب الذي أنشأه صدقي باشا. ثمة رواية أخرى أجدها الأقرب للمنطق وهي أن الملك فؤاد كان في زيارة لكلية الآداب واستمع لمحاضرة لأستاذ في التاريخ عن "تطور الدستور الانجليزي" وأن الواقعة أتت في وقت كان الملك وصدقي قد عطلا الدستور فيه مما أثار حفيظة فؤاد وفطن أن الأمر مقصود ومدبر وأن المسؤولية تقع على عاتق عميد كلية الآداب طه حسين.. وأيا كان السبب فى الخصومة فكان صدقي لا يعرف سوى الانتقام والإجهاز على خصومه فى ضراوة ولما كان طه حسين وقتها عميد كلية الآداب فقد تقرر نقله بأمر حلمى عيسى باشا، وزير المعارف العمومية والمعروف بوزير التقاليد(لإغلاقه معهد التمثيل في ذلك الوقت) ليعمل مستشارًا فى ديوان وزارة المعارف العمومية ولما رفض طه حسين تم فصله من الحكومة فقامت التظاهرات الطلابية لأجله ومن وقتها لقب بعميد الأدب العربي.

لكن صدقى استطاع أن يعوض مكان طه حسين بالجامعة المصرية بشخصية ذات ثقل كبير وهو الأستاذ العلامة (أحمد الإسكندري) أستاذ الإنشاء والأدب العربي بدار العلوم فتم نقله أستاذا للأدب العربي بالجامعة وهو من مؤسسي مجمع اللغة العربية في عهد صدقي كما اشترك مع الأستاذين حفني ناصف، ومصطفى عناني في لجنة اعتماد الرسم العثماني للمصحف الشريف ووضع قواعد الوقف في المصحف الشريف وهو أول من أدخل تدريس فقه اللغة في دار العلوم.

والحقيقة أنني أجد أن اختيار صدقي كان لرجل مناسب في مكانه المناسب ولو كنت مكانه لفعلت هذا بضمير مستريح فلقد قدم طه حسين للأدب اليوناني القديم والاستشراق الغربي أكثر مما قدم للأدب العربي.

الكاتب الكبير (محمد التابعي) صاحب المدرسة الصحفية الرائدة لم يسلم من سجون صدقي فقد حكم عليه بالسجن أربعة أشهر في أعقاب حادث الحصاينة عام 1933 وخلاصة الحادث أن الحكومة والبوليس عطلا وابور طحن الغلال ومضرب الأرز المملوك للشيخ الوفدي (طلبة صقر) فاختصم الحكومة أمام القضاء وحينما جاءت قوة من البوليس للتأكد أن الوابور والمضرب معطلين حدث تصادم بين أهل الشيخ والبوليس سقط على اثره ضحايا من الطرفين فأرسل البوليس تعزيزات كبيرة للقبض على الأهالي للانتصار لهيبة الدولة في حادثة مشابهة لحادثة مأمور البداري التي تحدثنا عنها في كتاب (على هامش التاريخ والأدب) ..جاء حكم القضاء ببطلان إلغاء رخصة الماكينة والوابور وأعقب ذلك مطالبات بالإفراج عن الأهالي ومحاكمة مأمور المركز فعلق التابعي على صفحات (روز اليوسف) ساخرا "إن وزير الحقانية أحمد باشا على قرأ تقرير النائب العام ثم هز رأسه وقال: نفرج عن الأهالى معلهش، أما أن نحاكم المأمور بتهمة التزوير فلا، وهز الوزير رأسه هزة اهتز معها قانون العقوبات، وأسبل القانون رمشه، وصرف النظر عن الموضوع" مما أغضب صدقي .

كما نال الصحفي (محمد توفيق دياب) صاحب صحيفة (الجهاد) نصيبه من السجن في عهد صدقي حينما نشر تسريب لخطابات من صدقي لأقسام البوليس لتزوير أصوات الانتخابات لصالح حزبه (الشعب) ولوصفه أحد النواب بأكحل العينين !! كما خاض دياب حملة شرسة ضد صدقي بسبب سد جبل الأولياء وسنأتي على تفصيله في الجزء الأخير من هذه الدراسة .

الشاعر (محمود أبو الوفا) صاحب القصيدة الشهيرة (عندما يأتي المساء) التي غناها (محمد عبد الوهاب) والذي امتحنه الله في صباه ببتر ساقه اليسرى فكان صابرا محتسبا وحينما سعى بعض المثقفين لدى صدقي لتركيب ساق صناعية له على نفقة الدولة في فرنسا في مقابل أبيات قليلة يلقيها في مدح صدقي فرفض الشاعر أن يطلب حقا له بنفاق وقيل أن صدقي استجاب لعلاجه وقيل أيضا أن هدى شعراوي هي التي تحملت التكاليف .

كما قيل أن الموسيقار رياض السنباطي رفض أن يحي حفلا في حضرة صدقي مما جعله موضع لهجوم الآلة الأعلامية المعاضدة لصدقي ..

لا يذكر لنا التاريخ موقفا كان فيه صدقي معاضدا لقضية ثقافية ومنتصرا لها سوى استقالته على أثر أزمة كتابة (الإسلام وأصول الحكم) حيث استقال وزير الحقانية (العدل) (عبد العزيز باشا فهمي) وفي رواية أخرى أقيل بأمر من الملك فؤاد الذي أزعجه تباطؤ الأخير في اتخاذ إجراء عقابي تجاه مؤلف الكتاب الشيخ (علي عبد الرازق) فكانت استقالة صدقي تعضيدا لموقف صديقه الوزير ولحزب الأحرار الدستوريين الذي يتزعمه الوزير وليس بسبب الكتاب بطبيعة الحال.

أما علاقة صدقي بالشيوعيين فكانت شديدة القسوة فقد عزز قانون العقوبات عام 1946بعدة مواد أضيفت خصيصا للقضاء على الشيوعية مستلهما إياها من قانون فاشي أصدره موسوليني الديكتاتور الإيطالي عام 1930 ونجح في تمريرها في غيبة البرلمان كما شن حملة اعتقالات على الشيوعيين أطلق عليها قضية الشيوعية الكبرى و ضمت مشايخ شيوعيين منهم )أبو الحسن الغنيمي( لكتابيه (الشيوعية في الإسلام ) و(دورنا في الكفاح الوطني) فضلا عن عدد من أدباء اليسار المصري ومنهم: سلامة موسى ومحمد مندور كما أغلق عددا من الصحف منها "الفجر الجديد" و"الجبهة" و"أم درمان" و"الضمير" و"الوفد المصري" .

حتى الأمراء لم يسلموا من تشدد صدقي ومنهم النبيل (عباس حليم) نصير الحركات العمالية وزعيم العمال والذي حبسه الملك فؤاد وحرمه من لقب "نبيل" نتيجة لهذه الميول الاشتراكية .ربما سمعت كثيرا عن هذا الاسم وقصته فصفحات الملكية لا تكف عن الثناء عليه .

تعلم من التاريخ يا سيدي أن تأخذ حذرك من الحمية الزائدة تجاه مثالية فلان أو علان فكلنا بشر وأعلم أن الغضب يفضح الشخص مهما أبدى من مثالية ..ما مناسبة كل هذا التقديم ؟! سأقول لك يحكي عباس خضر في كتابه (خطى مشيناها) أن مجلة (الكشكول) نشرت رسما كاريكاتيريا لعباس حليم "في وضع لم يعجبه" فذهب لإدارة المجلة "وبيده السوط" واقتحم مكتب رئيس التحرير (سليمان فوزي) وراح يضربه بالسوط حتى فر هاربا من بين يديه وأن صحف الوفد نشرت هذا الحدث ساخرة بصاحب الكشكول الذي كان دائم السخرية من زعماء الوفد بالكاريكاتير والشعر الحلمنتيشي!!...السؤال لو صحت الرواية : هل نيل الحقوق بالسوط أم بالقانون؟!!

الطريف أن مواقف صدقي السلبية ضد الشعب دفعت مفكريه لتشكيل أول جمعية لحقوق الإنسان بمصر وتتلخص دوافعهم أن أول قانون للجنسية المصرية صدر في مايو 1926 في عهد أحمد زيور باشا وكان ذو طابع ليبرالي عال لكن اسماعيل صدقي شاء أن يكبله بعد ذلك بسنوات بمواد تسحب الجنسية من المنضمين للمعسكر الشيوعي بالخارج من المصريين وقد خرج من عباءة هذه التعديلات المعيبة أول جمعية لحقوق الأنسان أسسها الليبرالي المصري (محمود عزمي) .

كما كتبت منيرة ثابت الرائدة النسائية عن وضع الحريات في عهده بمجلتها الأمل قائلة : (لقد سلطت وزارة صدقى عليكم أقصى ما يمكن أن يتصوره العقل البشرى من ضروب الاعتداء على حقوق الانسان حتى أنها بدلت في الكشوف ما شاء لها الهوى أن تبدل، وحاولت أن تعين المندوبين تعيينا فوضعت في كل كشف واحد من عمالها وتأمر كل تجمع انتخابي أن ينتخبوا عميلها وإلا أعملت فيهم تعذيبًا وانتقامًا) كما انتقدت لاحقا مفاوضات صدقي – بيفن.

ولا يمكننا أن نغلق مسألة الحريات دون أن نتحدث عن أبيات لشاعر النيل (حافظ إبراهيم) في صدقي والتي تعكس مبلغ الكراهية لسياساته يقول فيها :

"وَدَعا عَلَيكَ اللَهَ في مِحرابِهِ

الشَيخُ وَالقِسّيسُ وَالحاخامُ

لاهُمَّ أَحيِ ضَميرَهُ لِيَذوقَها

غُصَصاً وَتَنسِفَ نَفسَهُ الآلامُ"

رجل يرى المستقبل

تحدثنا في كتاب (على هامش التاريخ والأدب ) عن موقف صدقي من حرب فلسطين بشكل مختصر لكننا في هذا الجزء سنعرض بشكل تفصيلي موقف صدقي من المسألة الصهيونية بأكملها.

في كتابي (مرآة التاريخ) تحدثت عن الفتاة اليهودية (نظلة ليفي) والتي ذهبت إلى الجامع الأزهر لتخطب في الناس قي ثورة عام 1919 وهو جزء من تجانس المجتمع المصري القائم على انصهار الطوائف الثلاث من المسيحين والمسلمين واليهود فلا تستغرب عزيزي القارىء من قيام (محمد بدر) الشاب المسلم و"أحد خريجي جامعتي أدنبرج وبن ومؤلف تاريخ الفلسفة في المنطق وما بعد الطبيعة وحقيقة الإسلام وفهرست الكتب المخطوطة في اللغات العربية والفارسية والاوردية بمكتبة جامعة أدنبرج " عام 1926 من وضع كتاب (الكنز في قواعد اللغة العبرية ) لينال استحسان الحاخام الأكبر وتقرر وزارة المعارف وقتها تدريسه بالقسم العالي بدار العلوم وغيرها من المشاهد التي تشهد بعبقرية الأرض المصرية في ذلك الوقت والتي يضيق المقام برصدها جميعا ..

لذا فصداقة صدقي بيوسف اصلان قطاوي رئيس الطائفة اليهودية في مصر(من مؤسسي جمعية مصر للدراسات التاريخية اليهودية ووزير سابق للمالية والمواصلات وعضو مجلس النواب والشيوخ) ليس بالضرورة مبعثه علاقة خاصة ربطت بين زوجته الحسناء وصدقي فقطاوي كان له رصيد كبير كاقتصادي متميز من قبل فقد شارك في تأسيس بنك مصر وله باع كبير في صناعة السكر ...لقد تناولنا مغامرات صدقي من قبل لكن لا نستطيع أن نرتكن إليها دائما خاصة وأن الأمر يتعلق باتجاهات الرجل وقراراته كرجل دولة واقتصاد في المقام الأول بعيدا عن الفراش!!

كما أن مشاركته في المعرض الصهيوني في تل أبيب عام 1933 والذي ولد سخطا فلسطينيا عليه لا يعني تأييده لإسرائيل فالمسألة الصهيونية كانت في تقديره خلاقا داخليا ولا خطر على مصر إذا قامت إسرائيل للتفاوت في التعداد السكاني والإمكانيات علاوة على نظرته لليهود باعتبارهم أهل صناعة وتجارة لا ينبغي تعليمهم الحرب كما قال في تصريح له عقب حرب فلسطين والتي كان معارضا له وتطرقنا لذلك من قبل قال فيه : "أقولها صراحة والأيام بيننا فمصر قد تدخل في اتفاق مع إسرائيل " وأن الأفضل التخلي عن الشعارات البراقة والمزايدات واستغلال رغبة إسرائيل في الصلح بشروط وفق المصلحة المصرية أفضل من الخضوع لحكم الأقوياء !!

وذهب في تصوراته المستقبلية لأبعد من ذلك حينما تحدث أن النحاس نفسه هو من سيدخل في هذا الاتفاق والمثير أن ماقاله تحقق ولكن بعد سنوات طويلة في عهد الرئيس أنور السادات بمعاهدة السلام عام 1979 ..

فيما يخص قضية السودان وهي قضية محورية في ذلك الوقت كان صدقي في مفاوضاته التي عرفت بصدقي بيفن عام 1946 واقعيا أيضا فالسودان قد يقرر مصير استقلاله وإدارة شئونه بشكل مستقل عن مصر عاجلا كان أم آجلا لكن لم يكن صدقي في هذا الوقت هو صدقي العشرينات الذي تنازل عن جغبوب فالعمر قد تقدم به والزمن تغير وأرهقه المرض وإرغام الرأي العام على أمر كهذا مستحيل خاصة وأنه يصطدم أيضا بالقصر الملكي لذلك فقد ضمن معاهدته التي لم تر النور بأن استقلال السودان سيكون عبر اتفاق خاص بين مصر والسودان وليس عبر معاهدة مع الجانب البريطاني وهو ما أفشل المعاهدة التي سعى لانجاحها بكل السبل ورهن ما بقي من مستقبله السياسي بها وراهن عليها حتى النهاية...

كان لصدقي أياد بيضاء في حركة التنمية فشهد عصره بناء كوبري الخديو اسماعيل "قصر النيل " 1933 والطريف هو مهاجمة صحف المعارضة له وقتها لأن الكوبرى واسع جدا ولا يمكن أن تملأه السيارات!! وكذلك إنشاء مجلس مكافحة الفقر والجهل والمرض ولكن تتجلى عبقرية صدقي وقدرته على استشراف المستقبل حينما بنى سد (جبل الأولياء) على النيل الأبيض لتخزين المياه و الاستفادة منها مشروع سبق السد العالي بسنوات طويلة واستغرق إنشائه من عام 1933 الى عام 1937 وقد لاقى المشروع معارضة شديدة من خصوم صدقي لأن السد بني بتكلفة كبيرة وصلت إلى 2.5 مليون جنيه مصري إضافة لكون السودان تحت الحكم الإنجليزي لكن صدقي لم تفته هذه المسألة فقد اشترط بقاء السد تحت الإدارة المصرية وأن تكون مياهه كلها لاستخدام مصر وحدها وظل الخزان يؤدي دوره كخط إمداد ثان للمياه في مصر ولكن بعد اكتمال بناء السد العالي تم تسليم السد للسودان في السبعينات ويكفينا أن نعلم أن هذا السد هو جزء من استراتيجية السودان لحمايتها من تداعيات سد النهضة الاثيوبي .

مراجع الفصل :

1-كتاب إسماعيل باشا صدقي للدكنور محمد محمد الجوادي

2-كتاب مذكراتي لإسماعيل صدقي باشا

رحلة في عقل سلطان مملوكي ومحطات من البحث عن الشرعية في العهود القديمة

مقدمة

مسألة لا تبدو هينة فالوقوف على أعتاب دهاليز التاريخ المملوكي أمر يستدعى الاقتراب من صانع القرار وصانع القرار في هذه العهود لا يكتب مذكراته ولا حتى يملي تصريحاته أو تعقيباته عن حوادث هامة ربما لا يكون الوقت كافيا ليفعل هذا في خضم مسؤوليات جسام وربما ملكات اللغة وأدوات الكتابة ومهاراتها كانت مفقودة لديهم مع أصولهم الغربية أو ربما كان لإيمان جل هؤلاء السلاطين أن الشعب المصري لا حق له في المعرفة وهو بطبيعة الحال خارج دائرة صناعة القرار والتي في كل الأحوال تصدر ارتجالية تبعا للأهواء وتغير الخاطر والويل ثم الويل لمن يعكر صفو السلطان ويغير خاطره !!!

هذا الوضع جعل مصادر التاريخ المملوكي محدودة ومكررة أولها وأشهرها كتاب (بدائع الزهور في وقائع الدهور) لزين العابدين محمد بن أحمد المعروف بـا بن إياس الحنفي وهو معدود على المماليك فجده الأمير إياس الفخر الظاهري من مماليك الظاهر سيف الدين برقوق وعمل دواداراً في عهد الناصر فرج بن برقوق وهو ما يجعل البعض يتشككون في رواياته عن الاحتلال العثماني لمصر بحكم ولائه للمماليك ويظهر ذلك جليا في اتهام الجنود العثمانيين بالإفطار في نهار رمضان جهارا إضافة إلى تسرب الحكايات الشعبية لتاريخه ومن أشهرها قصة تسليم طومان باي لسليم الأول جراء خيانة شيخ العرب حسن بن مرعي علاوة على نفاقه لخاير بك حينما أصبح حاكم لمصر على الرغم من خيانته للسلطان المملوكي قنصوة الغوري وتسببه في هزيمته في مرج دابق وزحف السلطان العثماني سليم الأول لمصر قائلا في مدحه :"مصر أضحت في سرور عندما * قد تولى للنيابة خير بك".

لكن هذا لا يمنع موضوعيته في بعض المواضع وانتقاده للممارسات الظالمة للسلاطين المماليك ومنهم قنصوة الغوري موضوع حلقتنا فمثلا يتحدث عن تكة أنشأها قايتباي فلما تسلطن الغوري أمر ببناء مصطبة بالحوش بها عرش ذهبي فخم ليباشر منها المحاكمات فلما اعتلى الحكم طومان باي هدم المصطبة وأعاد التكة لسيرتها الأولى البسيطة وهنا ينشد ابن اياس قائلا: "قد عادت التكة للحكم ..وانهدمت مصطبة الظلم"

المصدر الثاني للتاريخ المملوكي (النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة) لأبو المحاسن جمال الدين يوسف بن الأمير سيف الدين تغري بردي الأتابكي اليشبقاوي الظاهري وهو مملوكيا أيضا كما يتضح من اسمه وكان أبوه من كبار أمراء المماليك في عهد السلطان الظاهر سيف الدين برقوق وابنه الناصر فرج بن برقوق وقد نال هذا الكتاب عناية السلطان سليم الأول فاستحسنه وحمله معه .

المصدر الثالث : (آخرة المماليك أو واقعة السلطان الغوري مع سليم العثماني)لابن زنبل الرمال وهو مصدر مشكوك في صحته فمؤلفه صنعته رمّالاً ومفسراً للأحلام فضلا عن امتلائه بكثير من الانفرادات كمقتل الغوري مثلا ومصير جثمانه بعد مقتله فهو يسوق حوارا بين الأمير علان 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

إحصائيات متنوعة مركز التدوين و التوثيق

المدونات العشر الأولى طبقا لنقاط تقييم الأدآء 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية) 

الترتيبالتغيرالكاتبالمدونة
1↓الكاتبمدونة نهلة حمودة
2↓الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب
3↓الكاتبمدونة ياسمين رحمي
4↓الكاتبمدونة محمد شحاتة
5↓الكاتبمدونة غازي جابر
6↓الكاتبمدونة خالد العامري
7↓الكاتبمدونة ياسر سلمي
8↓الكاتبمدونة هند حمدي
9↑5الكاتبمدونة خالد دومه
10↓-1الكاتبمدونة حنان صلاح الدين
 spacetaor

اگثر عشر مدونات تقدما في الترتيب 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية)

#الصعودالكاتبالمدونةالترتيب
1↑19الكاتبمدونة منى كمال217
2↑16الكاتبمدونة يوستينا الفي75
3↑10الكاتبمدونة طه عبد الوهاب147
4↑10الكاتبمدونة وسام عسكر214
5↑8الكاتبمدونة عطا الله حسب الله137
6↑8الكاتبمدونة مروة كرم144
7↑8الكاتبمدونة سارة القصبي159
8↑8الكاتبمدونة عزة الأمير170
9↑7الكاتبمدونة اسماعيل ابو زيد62
10↑7الكاتبمدونة هبة محمد194
 spacetaor

أكثر عشر مدونات تدوينا

#الكاتبالمدونةالتدوينات
1الكاتبمدونة نهلة حمودة1101
2الكاتبمدونة طلبة رضوان769
3الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب701
4الكاتبمدونة ياسر سلمي666
5الكاتبمدونة اشرف الكرم585
6الكاتبمدونة مريم توركان573
7الكاتبمدونة آيه الغمري510
8الكاتبمدونة فاطمة البسريني432
9الكاتبمدونة حنان صلاح الدين423
10الكاتبمدونة شادي الربابعة406

spacetaor

أكثر عشر مدونات قراءة

#الكاتبالمدونةالمشاهدات
1الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب350371
2الكاتبمدونة نهلة حمودة205068
3الكاتبمدونة ياسر سلمي190115
4الكاتبمدونة زينب حمدي176665
5الكاتبمدونة اشرف الكرم138362
6الكاتبمدونة مني امين118810
7الكاتبمدونة سمير حماد 112589
8الكاتبمدونة فيروز القطلبي103794
9الكاتبمدونة حنان صلاح الدين101144
10الكاتبمدونة مني العقدة98529

spacetaor

أحدث عشر مدونات إنضماما للمنصة 

#الكاتبالمدونةتاريخ الإنضمام
1الكاتبمدونة محمد فتحي2025-09-01
2الكاتبمدونة أحمد سيد2025-08-28
3الكاتبمدونة شيماء حسني2025-08-25
4الكاتبمدونة سارة القصبي2025-08-24
5الكاتبمدونة يوستينا الفي2025-08-08
6الكاتبمدونة منى كمال2025-07-30
7الكاتبمدونة نهاد كرارة2025-07-27
8الكاتبمدونة محمد بن زيد2025-07-25
9الكاتبمدونة ناهد بدوي2025-07-19
10الكاتبمدونة ثائر دالي2025-07-18

المتواجدون حالياً

1433 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع