بحثتُ عنه كثيرًا، في الصحارى والقفر، بين أصناف الوحش، حتى وجدته بعد لأيَ، يجلس مستلقيًا على صخرة عالية، كدت أفزع إليه لولا أنني تذكرتُ أنه سيهرب مني لأُنسِهِ بنفسه، فاقتربتُ منه على مهلٍ مناديًا بصوت خفيضً:
- يا صاحب ليلى، جئتُكَ مُحبًّا لا عدوًّا.
فزع حينما رآني، وهمَّ أن يختفي من أمامي لولا أني بادرته بقولي:
إذا ذُكِرَتْ لَيْلَى أُسَرُّ بِذِكْرِهَا
كمَا انْتَفَضَ العُصْفُورُ مِنْ بَلَلِ القَطْرِ
توقف عن محاولة هربه مني ثم هدأ، فأعدتُّ عليه ذلك البيت السالف، فهدأ وخَلَّنِي أقترب منه، ثم قال بصوتٍ مبحوح وعينين شاردتين هائمتين تبحثان عن شيء:
صَغِيرَيْنِ نَرْعَى البَهْمَ يا لَيْتَ أنَّنَا
إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهمُ
اقتربتُ وصمتُّ حتى آنس قربي، أو ربما خًيِلَ إليَّ، ثم سألته بصوتٍ هادئ:
- قُل لي بربكَ، أيهلكنا الحب؟
نظر إلى السماء البعيدة المتوارية خلف سفح الجبل، ثم التفتَ فجأة خلفه ناظرًا إلى ما ورائي فارتعبتُ منه، ثم هدأ روعي حينما هدأت ملامحه الفَزِعَة، فبدت لي لحيته الكثَّة النابتة في أرض وجهه الأبيض الشاحب كغيامة سوداء تحيطها سحب بيضاء.
أطال النظر خلفي، وكان يبدو من تركيز عينيه أنه كان ينظر إلى الصحراء المترامية خلفي يرْقُب ظبية صغيرة؛ لم ينطق ببنت شفة، فآثَرَ الصَمتُ، بينما أثرتُ حديثهُ بسؤالي:
- أأحْيَتْكَ ليلى بحبها أم أنَّ الحب يُحيي كل لُبّ؟
انتفض من ذكري اسمها، ثم نظر في عينيَّ للمرة الأولى، ثم جلسَ على الأرضِ كأنَّهُ خرَّ صَعقًا من ضعف قواه، فأمسك بعصا صغيرة وبات يكتب كلمات لستُ أفهمها، وهو ينشد:
الحبّ لَيسَ يفيق الدَّهْرُ صاحبه
وإنما يصرع المجنون في الحين
جلستُ جوارهُ نفس جلسته، وساءلته في همس كي لا أشتت صمته وشروده:
- صِفها لي.
ابتسم وطالت بسمته، وأضاء وجهه وتزين، ولمعتْ عَينَاهُ بفرحة غريبة كأنها حزن ممزوج بِسَعَدْ، ثم لمعتْ بسعادة مغايرة كأنه البكاء ممتزجًا بالفرح.
رسم بالعصا دائرة ثم أردف وهو يركز نظره في تلك الدائرة:
بَيْضَاءُ باكَرَهَا النَّعِيمُ كَأنَّهَا..
قَمَرٌ تَوَسَّطَ جُنْحُ لَيْلٍ أسْوَدِ
موسومة بالحسن ذات حواسد..
إن الحسان مظنة للحسد
وتَرى مَدَامِعَهَا تَرَقْرَقُ مُقْلَة..
سَوْدَاءَ تَرْغَبُ عَنْ سَوَادِ الإِثمِدِ
خود إذا كثر الكلام تعوذت..
بحمى الحياء وإن تكلم تقصد.
صَمَتَ وهو ما زال ينظر في الدائرة كأنه يرى فيها وجهها، أو ربما رآه بالفعل؛ ثم ابتسم ومال على الدائرة يريد تلثيمها - محبوبته المُتَخيَّلة - وتقبيلها.
سألته - وهو أعلم من يُسأل في ذلك، بعد أن ترنَّح ناح الوجه وعاد - في حنوٍ:
- أيعظمُ في قلب أحدنا الحب حتى يهلكه؟
جَحَظتْ عيناه واتسعت حدقتاهما وهو ينظر في الدائرة، ثم ابتسم، ثم نظر بعيدًا وبات يجول بعينيه في الصحراء يبحث عن الظبية، فأردف وهو يقلِّب عينيه في صفحة الصحراء:
فَأَشهَدُ عِندَ اللَهِ أَنّي أُحِبُّها..
فَهَذا لَها عِندي فَما عِندَها لِيا
أَعُدُّ اللَيالي لَيلَةً بَعدَ لَيلَةٍ..
وَقَد عِشتُ دَهرًا لا أَعُدُّ اللَيالِيا
وَأَخرُجُ مِن بَينِ البُيوتِ لَعَلَّني..
أُحَدِّثُ عَنكِ النَفسَ بِاللَيلِ خالِيا
أُحِبُّ مِنَ الأَسماءِ ما وافَقَ اِسمَها..
أَوَ اِشبَهَهُ أَو كانَ مِنهُ مُدانِيا.
توقَّف عن الإنشاد ثم انتصب واقفا ما أن رأى الظبية التي كان يطاردها بعينيه قريبة منا، وأسرع خطاه على لين برجلين حافيتين وجسد نحيف، حتى لحق بها، بينما أنا أقترب رويدًا رويدًا كي لا أفزعهما، فوجدته يحتضنها بحنو وهو يردد:
أيا شبْهَ ليلى لا تُراعي فإنني..
لكَ اليومَ مِنْ بين الوحوشِ صديقُ
فعيناكِ عيناها وجيدُك جيدُها..
سوى أن عظم الساق منك دقيق
وكادَتْ بلادُ اللّه يا أمّ مالكٍ..
بما رَحُبَتْ مِنْكُمْ عليَّ تَضيقُ.
تركها - بعد أن قبَّل رأسها واحتضنها - تنطلق وتسبح في فضاء الصحراء الواسع وهو يتابعها بنظره ويودعها ببسمة جميلة ارتسمت على ثغره لأول مرة، ثم حزنَ فجأة كأنه تذكر بوداعها وادع ليلى، فأنشد:
سأبكي على ما فات مني صبابة..
وأندب أيام السرور الذواهب
وأمنع عيني أن تلذ بغيركم..
وإنِّي وإنْ جَانَبْتُ غَيْرُ مُجانِبِ
وخير زمان كنت أرجو دنوه..
رَمَتْنِي عُيُونُ النَّاسِ مِنْ كُلِّ جَانِبِ
فأصبحت مرحوما ًوكنت محسدًا ..
فصبرا على مكروهها والعواقب.
لمعتْ عيناه بدموع رقراقة، ولاحتْ لي صورة الأفق في عينيه اللامعتين، فأنشد وهو لا زال ينظر إلى الظبية وهي تعدو وتبتعد:
أَلا أَيُّها القَلبُ الَّذي لَجَّ هائِمًا..
بِلَيلى وَليدا لَم تُقَطَّع تَمائِمُه
أَفِق قَد أَفاقَ العاشِقونَ وَقَد أَنى..
لَكَ اليَومَ أَن تَلقى طَبيبًا تُلائِمُه
فَما لَكَ مَسلوبُ العَزاءِ كَأَنَّما..
تَرى نَأيَ لَيلى مَغرَماً أَنتَ غارِمُه
أَجَدَّكَ لا تُنسيكَ لَيلى مُلِمَّةٌ..
تُلِمُّ وَلا عَهدٌ يَطولُ تَقادُمُه.
غَابت الظبية عن ناظره وهو يتابعها بدموع تخط وجنتيه حتى استقرت عند لحيته، فتاهت بين خلاصتها الكثة، فاستدار ومضى وهو ينشد:
عرضت على قلبي العزاء فقال لي..
من الآن فايأس لا أعزكَ من صبرِ
إذا بان من تهوى وأصبح نائيا ..
فلا شيء أجدى من حلولك في القبرِ
وداع دعا إذ نحن بالخَيْفِ من منى..
فهيج أطراب الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ..
أطارا بليلى طائرا كان في صدري
دعا باسم ليلى ضلل الله سعيه ..
وليلى بأرض عنه نازحة قفرِ.
تركني وهو يردد أبياته ويبكي، فأرفقت لحاله وتركته وأنا بمثل حالته ومضيت.
-----------------------------
(الأبيات المرفقة في النص لقيس بن الملوح، وإن اختُلف في بعضها)