أنا أفشل من يقوم بصنع القهوة، أهتم بها في بدايتها، ثم أنساها ولا أتذكرها إلا على رائحتها المحترقة وهي تداعب أنفي معاتبة إياي على محرقتها ربما الثانية أوالثالثة بسببي إهمالي لها؛ فأقول في نفسي: لا ضير، سأعد غيرها، ويُكرر، فأرضى بواقعي المحتم وأهمُّ ببقاياها المحترقة فأحتسيها، وقد تعودت الأمر.
الآن، وأنا أحتسي كوبي الثالث - والذي كان بعد اثنين محروقين قبله، كنت في انسكاب كل منهما أحاول صنع جديد - أتلذذ بها رغم مرارتها.
أخبرني صديق لي، معقبًا على تلكم العادة، أنها انعكاس لحياتي كليةً، وتكهن - وهو ليس بصديق مقرب لي - أنني فاتر في علاقاتي مع الجميع، ولا أهتم بأحبتي ومقربيني، فأتركهم حتى يأكلهم إهمالي، فيحترق الود بيننا كما يحترق كوب القهوة بين يديَّ!
صور لي - صديقي ذاك - مقادير القهوة التي نضعها في الفنجان بالحب الذي نضعه في قلوب غيرنا، والحياة هي النار التي تسوي ذلك الحب فتصيِّرُه أقوى ترابطًا.
لكن احذر - يستطرد - احذر من نار الحياة حينما تتركها تأكل في قلوب من تحبهم بإهمالك وتلاهيك، فقد تذيب تلك القلوب بقسوة ولا تجد لها أثر.
لم أجادله حينها في وجهة نظره، وصمتُّ وأنا أفكر فيها، فظن صمتي اعتناقًا لفكرته، لكني آثرت الصمت على جداله.
سألت في نفسي: ما هو حجم الاهتمام الذي يجعل العلاقة تستمر وتنجح؟
هل حينما نلجأ للاعتزال عن الجميع يكون ذلك إهمالًا ينخر ويأكل في علاقاتنا؟
هممت أن أصنعُ كوب قهوة جديد، وفكري كله مشغول بما قاله صديقي وما فجرته رأسي من الأسئلة نتيجة كلماته، لكنني حاولت تفريغ نفسي وفكري للكوب الجديد حتى لا يحدث فيه ما يحدث في كل مرة، وبعد أن استوى وطلب ارتشافه بغنج ودلال ارتشفت منه رشفة لم أكمل بعدها الكوب، فقد شعرت للوهلة الأولى أن مذاق القهوة تالف، أو أن به شيء، فحاولت أن أكمله لكنني لم أستطع، فتركته بكرًا حتى فاضت أبخرته دموعًا على عزوفي عنه.
وبقى في فمي سؤالا محروقا: ما مقدار الاهتمام الذي يجعل الود باقيا مترابطا، ولا يجعل نار الانشغال تحرقه؟